أبواب

مرجعيتنا المشبوهة!

خليل قنديل

يحق لنا وبعد مرور أكثر من قرن على نشوء الحضارة العربية الإسلامية، أن نسأل عن هذا السر القادر عبر مفاصلنا التاريخية وعبر الحقب والقرون، أن نسأل عن سر هذا الانتعاش الدائم في ماضويتنا، وقدرتها الدائمة على تجديد روحها الخلافية، بعد كل مفصل زمني، وقدرة هذه الماضوية العجيبة على محق قوانا الخلاقة، وقدرتها على إنتاج المشهد من جديد، وبكامل معوقاته الإشكالية، كأننا لم نتقدم في الزمان، ولم نلحق بركب التحضر العالمي بعد.

إنّ القوى التاريخية الممغنطة للحدث السياسي العالمي الراهن، استطاعت أن تثبت قدرة الشعوب العالمية على تجاوز محنها التاريخية، لا بل محق هذا التاريخ، بينما العربي لايزال رهن تاريخه ورهن عقده المرجعية، ولايزال يقوى على أن يفكر بالسيف، وأن يسعى إلى تقويض الجغرافيا السياسية القائمة، كي يعيد إنتاج دولة الخلافة من جديد، وتحطيم القيم السياسية العالمية واستبدالها بقيم حالمة، لا علاقة لمضارعنا السياسي بها.

هذا يحدث حالياً في غير عاصمة عربية، إذ بدأت فكرة التكفير تطفح على وجه مضارعنا السياسي، إذ بدا واقعنا يفرز الجماعات التكفيرية المتطرفة، التي بدأت تعلن خطابها بجرأة عجيبة، وتهجم على خرائطنا السياسية تعيد الجغرافيا إلى محنتها الطائفية والعرقية من جديد!

والغريب أن العالم الصناعي الغربي (صانع الحضارة التي نعيش)، قد استطاع عبر تاريخه أن يغسل روحه من كل المعوقات التاريخية، ومن كل أدران الماضوية، واستطاع أن يروض نفسه على الانضباط في المسار التاريخي للبشرية، وأن يجترح مساره الحضاري الخاص، دون التورط في المرجعيات العقائدية النائية عن العصر واستحقاقاته!

وفي هذا الإطار، استطاع الشعب الأميركي تجاوز محنته في تأسيس أميركا، والقفز على الحروب الأهلية التي عاشها الشعب الأميركي قبل الاستقلال، من أجل بناء أميركا الجديدة. كما استطاع الشعبان البريطاني والفرنسي نسيان حرب الـ‬100 عام، والعمل على توحيد جهودهما الاستعمارية لاحتلال العالم.

كما أن ألمانيا التي أشعلت الحرب العالمية الأولى، التي كانت تهدف إلى تسييد العرق الجرماني على العالم، قبلت في النهاية خسارتها التاريخية الموجعة، وبدأت في الاندغام في المشروع التحضري العالمي، ووصلت به إلى حد التسيد من جديد، والأمر ذاته ينطبق على المارد الياباني، الذي خرّ ساجداً بعد الحرب العالمية الأولى، وعاد بعد ذلك لينهض من جديد!

والحال، أن معظم شعوب العالم استطاعت أن تستفيد من خسائرها وانكساراتها لتنهض من جديد، من دون أن تقع في براثن ماضويتها ومرجعياتها، التي لم تعد صالحة لزماننا الذي نعيش.

لكن الأمر عربياً يحتلف تماماً؛ فهذا العربي ورغم خساراته المشاهدة بالعين المجردة لايزال يقوى على الانسحاب إلى مناطقه التاريخية النائية، محاولاً أن يدب فيها ماء الحياة.

وكمثال بسيط، من يراقب الحرب الدائرة رحاها الآن بين الجماعات السنية وكتائب «حزب الله» في الحدود اللبنانية ـ السورية، سيكتشف أننا بدأنا نعود إلى موقعة الجمل، التي استطاعت أن تحفر عميقاً في البنية التاريخية للشعوب الإسلامية بين سني وشيعي، وأن تعيدنا إلى المربع التاريخي الأول من جديد.

وتلكم هي كارثة مرجعياتنا المشبوهة!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر