أبواب

البكاء عند العرب

يوسف ضمرة

كان يحيرني على الدوام وجود ما يسمى بحائط المبكى في القدس.. الجدار الذي يقف أمامه اليهودي ويبكي. يحيرني لسببين، الأول: لماذا يبكي اليهودي؟ أعني ما الحدث الدرامي الذي حصل في التاريخ اليهودي واستحق البكاء حتى اليوم؟ والثاني: لماذا في القدس؟

جاء في سفر حزقيال ما معناه أن النساء كن على أبواب القدس يبكين تموز، أجل تموز ولا شيء آخر. وبحسب السردية الدينية التي أريدَ لها أن تكون تاريخية من قبل اليهود، فمن المفروض أن تبكي النساء سبي الأسلاف على يد نبوخذ نصر لا أن تبكي النساء تموز البابلي.

الدكتور فاضل الربيعي يقول إن طقس «النياحة» طقس قديم عند العرب، ويدعم قراءته بالاستشهاد بالبكاء على الأطلال، وبحكايات أخرى كثيرة يتم فيها ذكر النياحة. وأول ما يتبادر إلى الذهن: قفا نبك. ثم حاولت أن أنبش ذاكرتي فعثرت على الكثير من النواح في مواقف عدة. يقول طرفة: فإن مت فانعيني بما أنا أهله/ وشقي علي الجيب يا ابنة معبدِ

ويقول مالك بن الريب: تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح اليماني باكيا.

وتقول أم أبي عبدالله الصغير: ابك مثل النساء ملكا مضاعا/ لم تصنه كما الرجالِ

والشواهد أكثر من أن تحصى. فلدينا ثلاثة أمثلة فقط من ثلاثة عصور عربية مختلفة. واللافت هو أن البكاء كان على ما يبدو طقساً نسوياً لا ذكورياً. فطرفة يخاطب ابنة عمه ويطالبها بالبكاء. وأم عبدالله الصغير تقول «ابك كما النساء». وتبدو قصة البكاء على الأطلال نوعاً من التذلل المفرط جراء الفقدان أو الحنين. فامرؤ القيس يقول: كأني غداة البين يوم تحملوا/ لدى عرصات الحي ناقف حنظلِ. وهو فعل نسائي كما يقال. والأعشى يقول: ودّعْ هريرة إن الركب مرتحلُ/ وهل تطيق وداعا أيها الرجلُ؟

وكما ذكرنا من قبل، فالذي بكى في حزقيال هن النساء. وكأني أتذكر أن الرسول محمد (ص) طلب من النساء البكاء على مصعب بن عمير.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال جديد: هل هذا الطقس نسوي بالضرورة؟ ثم، هل هو طقس عربي حقاً؟ وهل بكاء اليهود عند حائط المبكى هو امتداد لطقس النياحة العربي بوصف اليهود قبيلة من قبائل العرب في المنطقة، كما يقول الدكتور فاضل الربيعي؟

لا يوجد عند العرب اليوم إعادة لطقس النياحة سوى العرب المسلمين الشيعة، وهؤلاء يفعلون ذلك في مناسبة تاريخية محددة وواقعة حقيقية وموضوعية وهي ذكرى مأساة كربلاء التي اغتيل فيها الحسين بن علي وأهل بيته، وتم سبي بقية من ظلوا على قيد الحياة. وقد أثرت هذه الواقعة كثيراً في الثقافة الشيعية، ويبدو ذلك واضحاً في التراث العراقي المتبل بالحزن والتفجع، كما تؤكد المقامات العراقية.. ربما نوعاً من التكفير عن الذنب الذي يشعر به العراقيون أكثر من غيرهم، حين تخلوا عن الحسين بعد أن وعدوه بنصرته. أما اليهود فإنهم لا يحددون مناسبة للبكاء، حيث يمكن الذهاب في أي وقت والبكاء عند حائط المبكى «البراق». ولكن، لماذا يحافظ اليهود على طقس عربي، بينما ينعدم هذا الطقس عند العرب؟ الجواب هو أن اليهود الذين حرصوا على تقمص دور الضحية كما يقول الدكتور فاضل الربيعي، ربما وجدوا في البكاء سمة أساسية من سمات الضحية فواصلوا البكاء.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر