أبواب

بيروت

زياد خدّاش

من الصعب الكلام عنها بعد لمسها، سهل قبل تذوقها أن نتخيلها، صعب أن نكتبها بعد رؤيتها، بالإمكان لمن لم يشمها دوماً النوم من دونها، وكم هو مستحيل شرحها حين المشي فيها، بيروت مدينة ذكريات جاهزة لكل شخص في العالم، كل من يدخلها لأول مرة يقول لنفسه: ياه، مضى زمن طويل على مغادرتي هذا المكان، في مقهى «زوايا» قابلت ريما وعماد وليليان وإنعام، كانوا لطفاء للغاية، وكنت أقول لي وهم يتحدثون: كيف رفع هؤلاء اللطفاء جداً السلاح في وجه بعضهم البعض.؟

في مقهى «كوستا» جلست وحدي بعد أن هربت من صديقيّ المتدينين، وانتظرت امرأة أعرفها، حلمت أنها ستمر من أمامي لأفاجأ بها، امرأة تصلح لأن يكون اسمها (نوال)، أردنية مجنونة، كانت تسكن هنا، ولا تخرج من البيت أبداً، تمضي وقتها في الكتابة والحديث عن الانتحار، ولا جدوى أي شيء، والفراغ، وكانت تقول لي دوماً: «إن بيروت عاصمة الخطأ الجميل، فاستعد لارتكابه لتعثر على صوابك»، وكنت أقول لها ربما بيروت أيضاً امتحان جسد العالم، لا أحد ينجح فيه، هي ساعة العالم لا أحد يخرج عنها، مفرق طرقه لا أحد لا يحتار فيه، حلمه الأبهى لا أحد يصحو منه، بهاؤه المغيظ لا أحد يقاومه، بيروت مربط خيل الكلام ولا أحد يتكلم أمامها. دخلتها قبل أيام مع صديقين في الحقيقة لا في الحلم، دخلناها وفداً تربوياً من فلسطين يشارك في مؤتمر، بعد عشرين عاماً تقريباً من العجز عن السفر لأسباب مختلفة، أسافر فجأة إلى بيروت معلماً يحمل أفكاراً تغييرية، من دون مقدمات أو إنذارات، أي قسوة رتّبها لي القدر، ليتسلى، فقط ليتسلى، كنت مثل مزمن عطش ينهمر عليه فجأة نهر كامل، فيرتبك حلقه، وتجن أمعاؤه، فاقداً للتوازن، مشيت على رصيف الروشة، أعطيت من دون وعي نصف نقودي للمتسولين، وركبت في قارب وأعطيت صاحبه مبلغاً كبيراً، استغربه هو وظنني أخطأت في الحساب، لكني تركته وغادرت، لم تمر عني (نوال)، فقد تذكرت أنها غادرت إلى أوروبا قبل أشهر، هذه المجنونة لا تقيم في مكان أكثر من سنة واحدة. لكنها ظلت بيروتية الأخطاء، واصلت المشي على الرصيف باحثاً عن خطأ جميل، أرتكبه في أرض الأخطاء الرائعة.

وفجأة وجهاً لوجه كانت (سحر) صديقتي (الفيسبوكية) السورية المقيمة في أوروبا، تشهق وكنت أنا أشهق، ياه، نلتقي بالمصادفة على رصيف بيروتي يا سحر؟

فقط هنا على أرصفة بيروت يا عزيزتي يلتقي الوجع السوري مع الوجع الفلسطيني. تلتقي أوجاع العرب، لتشهق وتعانق بعضها ثم تفترق.

يصعب شرح بيروت، فهي ليست درساً، تصعب كتابتها فهي ليست نصاً، يصعب قولها فهي ليست كلاماً، يصعب موتها فهي ليست قابلة للموت. هذا ليس نصاً في بيروت إنه محاولة لفهمها، محاولة خائبة بالتأكيد.

zkhadash@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر