أبواب

مات «خاطف الشعر»

زياد خدّاش

كل الكلام قيل قبل ذلك في عيد ميلاد محمود درويش، ماالذي سأضيفه في نصي هذا إذن؟ لن أقول شعراً في عيده، لن أتحسر على رحيله، لن أصرخ: لن ننساك يا محمود، وأنك موجود في كل زاوية من زوايا عيشنا، ولن أقول إني أفتقده، وإنه لون علم فلسطين الخامس، كل ذلك قلته قبل ذلك أو قاله غيري. قبل قليل عدت من هناك، صافحت حارس المكان، لمست وردة بيضاء، جلست على الدرجات، التقطت صورة لضريحه وهمست له: مساء واسع لعينيك يا محمود، ثم عدت إلى البيت لأفكر في محمود درويش هذه الظاهرة التي حيّرت وأغاظت وأبهجت الكثيرين، خطر في بالي سؤال: أين هم أولئك الشعراء الذين طالما اتهموا محمود درويش بأنه كان يعرقل بشهرته الكبيرة مواهبهم وانتشارهم؟ محمود ميت الآن، (أهو حقاً ميت؟)، فأين أنتم؟ أين قصائدكم؟ أين أمسياتكم؟ لم لا تنتشرون؟ فالساحة الآن خالية من محمود، (هل حقاً خلت الساحة من محمود؟).

سمعت شخصاً يقول لشخص آخر في مقهى شعبي، بعيد رحيل محمود بأيام قليلة، ها هو محمود يموت، الآن ستلمع أسماء الشعراء التي كان وجود محمود الطاغي يمنع لمعانها، شعرت بغيظ كبير من هذا الشخص وتذكرت شعراء كثيرين كان محمود يعاني اعتقادهم العصابي الهستيري الصلب بأنه سبب عدم شهرتهم في الساحة الإبداعية، أعرف شاعراً مصرياً سبعينياً كان دائم التذمر من استمرار تصاعد شهرة محمود درويش، هذا الشاعر نفسه أقام أمسية شعرية قبل أشهر قليلة حضرها فقط ‬20 شخصاً، بمن فيهم موظفو المؤسسة التي أقيمت فيها الأمسية،لنواجه جميعاً الحقيقة المرة بالنسبة للبعض والحلوة للبعض الآخر، محمود درويش عبقرية لن تتكرر، وإذا كانت ظلال عبقريته قد خطفت المشهد الشعري العربي فهذا ليس ذنبه، أنا شخصياً لا أخفي انزعاجي من عدم وجود عبقريات شعرية مجاورة لعبقريته تغني الشعر وتثريه، كنت أفضل لو أن هناك شعراء كثيرين بحجمه أو أكثر، كما في أوروبا التي اكتظت وتكتظ مشاهدها الأدبية بشعراء عظام، علينا أن نعترف: تجربة محمود درويش أهم تجربة شعرية عربية ظهرت بعد المتنبي، أعرف أن من الصعب الاعتراف بهذا، خصوصاً من بعض الشعراء، أتفّهم ذلك، لكنها الحقيقة التي يعرفها الكل، ومن السهل إثباتها، خصوصاً بعد رحيله الصعب الذي شكّل بالفعل امتحاناً محرجاً للشعراء الذين لم يتوقفوا يوماً عن اتهامه بخطف الشعر. مات من خطف الشعر يوماً كما تتوهمون، فهيا اصنعوا لنا أمسية يحضرها الآلاف، أتقدرون؟ لدينا تجارب شهرية مهمة ولافتة، لا شك في ذلك، لا أحد يجادل في ذلك، لكن المسألة ليست في الاعتراف بهؤلاء، هي تماماً هناك في قدرة البعض على التسليم بوجود عبقرية شعرية محيّرة بالفعل، ولن تتكرر في طبيعتها وأسلوبها ولغتها وبنائها وحمولاتها واختلاط الوطني فيها بالإنساني باليومي بالأسطوري بالغنائي، اسمها محمود درويش، لكن ذلك لا يعني أن هذه العبقرية هي آخر عبقريات الشعر في عالمنا العربي، ستأتي عبقريات أخرى بالتأكيد، بحمولات ولغة ومعمار آخر، هكذا تقول وتؤكد الحياة.

محمود درويش كل عام وأنت بخير.

zkhadash@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر