أبواب

شقيقي ياسينو

زياد خدّاش

أحببت شخصية ياسينو «ياسين بقوش» لدرجة أنني حسبته شخصاً حقيقياً، يعمل نادلاً في فندق حقيقي اسمه «صح النوم» بدمشق، في طفولتي وصباي، سكنني «ياسينو» أيّما سكينة وسكن، كنت أشبهه جداً، أتذكر صفعات وركلات التلاميذ الأضخم مني في ساحة المدرسة، أتذكر ضحكهم عليّ وأنا أجلس وحيداً في المدرج أتفرج على تلاميذ صفي وهم يلعبون الرياضة، كنت لا أجرؤ على ارتداء ملابس الرياضة، كانت لديّ «بطات» أرجل ضخمة، لا تناسب عمري، أتذكر صراخ مدرس الرياضة في وجهي: «دافع عن نفسك يا زلمة»، كان وجهي آنذاك غارقاً في بحيرة «حب الشباب»، وكنت أظن ظناً حتمياً أني مقزز ومكروه، خصوصاً من البنات، كان هذا يزيد حماسة الطلاب الأكبر مني «لينكشوا راسا» معي.

سمّوني المسطول والضخم والغريب والوحيد والأرنب والسقيطة، وكنت حزيناً جداً جداً. كان «ياسينو» صديقي الوحيد في منامي ويقظتي، كنت أتكلم معه في أحلامي، وكان يبوح لي بأحزانه: «ياسينو» اسمعني، اليوم اشترى لي أبي صابوناً طبياً يقال إنه يزيل حب الشباب بالتدريج، «ياسينو» بكرة حصة الرياضة، وأنا مرعوب، (زياد يا شقيقي: أبوعنتر أهانني اليوم أمام فطوم وغوار وما اعرفت أرد، دائما لا أعرف أن أرد)، (زياد فطوم ما راضية تتزوجني أنا بحبها كثير).

وهكذا نظل نبوح لبعضنا حتى ينفجر الصبح فينا، فيذهب هو إلى فندقه الذي يعمل فيه نادلاً، وأذهب أنا إلى المدرسة التي أعمل فيها عبداً. اختفى حب الشباب من وجهي، كبرت، وغادرت عالم المدارس، الطلاب الذين كبروا معي، والذين كانوا يهينونني وأنا صغير، اعتذروا لي كثيراً في الشارع وهم يقرأون اسمي يتكرر في الجرائد، بعضهم استشهد، فسامحته، بعضهم اعتقل، فأحببته، بعضهم مرض فحزنت عليه، بعضهم أمسى طبيباً ومدرساً وسياسياً ومهندساً وكاتباً وفناناً، فصاروا أصدقائي.

غاب اسم «ياسينو» عن عالمي، كنت أظنه مريضاً أو معتزلاً التمثيل منذ زمن، إذ لم أعد أسمع باسمه، حزنت على تغييبه وتجاهله، مازلت أتذكر حزيناً ومحباً فترة القحط الجسدي والروحي التي عشتها معه في ذاكرة بعيدة. في بلادنا فقط يجب على الفنان أن يقتل أو يموت حتى ينتبه إليه الناس، وحتى يتذكروه، ويحزنوا عليه ويكرّموه، عشرات المقالات نعت «ياسينو»، الذي قتلته قذيفة عبثية لم يعرف مصدرها، «ياسينو» المنسي منذ عقود لم يتذكره أحد، لم يكتب عنه أحد، ما أقسانا، ما أقسانا.

الآن يتم تذكره، الآن يكتب عنه بغزارة، كم من مبدعين منسيين الآن في عالمنا العربي لا يتذكرهم أحد، ينتظر النقاد والناس والصحافيون موتهم ليكتبوا عنهم ويتفاجأوا بوجودهم، لا يحدث هذا إلاّ في عالمنا العربي، أريد أن أذّكر بالفنانة العظيمة نجاح حفيظ «فطوم حيص بيص»، هذه الفنانة لم تمت بعد، والعمر الطويل لها، لم أسمع عنها شيئاً منذ زمن، لم أقرأ حواراً معها في جريدة أو لقاء في فضائية ما، لم أسمع عن تكريم لها في مهرجان، منسية ومغيبة هي مثل ياسين عبدالقادر بقوش، أطال الله في عمرها، ورحم الله «ياسينو» شقيق وجعي وحبيب مراهقتي.

zkhadash@yahoo.com

 

تويتر