أبواب

مُصالحة بصرية

قيس الزبيدي

تحتوي الصورة، حسب أبراهام مولنز، على سبعة أبعاد: بُعد تعقد مستوى الصورة وبُعد حجمها، وبُعد قيمتها، ومدى صدقيتها وتأثيرها، وبُعد كثافتها، وبُعد جمالية رموزها التي تشكل شروط إيجاد متعتها والتلذذ بها، إضافة إلى بُعد جانبيها التاريخي والاجتماعي اللذين يشكلان العلاقة بين إبداع الكائن وفضائه الاجتماعي.

يزيد من «سلطة الصورة» التحولات السريعة التي نتج فيها الاتصال الإعلامي عن تطور تقنيات التلفزيون عبر تكاثر الأقمار الاصطناعية، وتطور أشكال وسائط الإعلام، وتكاثر محطات البث، وتكريس «ديكتاتورية الخبر السريع»، كذلك مكنت الصحافة المكتوبة الاستفادة من عرض نشرات إلكترونية مصورة على الإنترنت. وألغى انتشار الصور في الانترنت كونياً أيضاً كل المسافات والحدود، ووضع الصورة في خدمة العولمة وأصبحنا مع انتشار التقنيات الحديثة نعيش في عالم من صناعة الصور التي تنتج القيم والرموز وتشكل الوعي والوجدان والذوق والسلوك.

وبما أن الصورة لا تحاكي الواقع فقط، بل تؤوله أيضاً وتأويل أي شيء كان، ليس هو الشيء ذاته، لهذا تتحول حقيقة صورة الواقع المُؤولة إلى حقيقة وهمية يختلط فيها الواقع المُحتمل بافتراض أشد احتمالاً، بحيث لم يعد الخطاب البصري تشكيلاً للأيدولوجيا بل هو أيديولوجي بذاته.

اعتبر أرسطو المحاكاة «صنعة»، ويرى إدغار موران أن الصور هي «تصنيع ثانٍ» و«استعمار ثانٍ» لا ينتج الاستهلاك فحسب بل ينتج المستهلك أيضاً، كذلك يرى لويس التوسر أن الإنسان نفسه كائن أيديولوجي، يستجيب لمعاني ما يسمى «اللعب الحر» بين الدال والمدلول ويستجيب لدال مُراوغ يخفي مدلوله لدرجة لم تعد فيها للمعاني بؤرة مركزية، هناك فقط «لعب الدوال» والمعاني وانزياح تام للمعنى.

وقد اوجد هذا الواقع الجديد مجتمعاً نمطياً أخذت الصورة تمثل فيه القلب النابض، فلأول مرة في التاريخ أصبح الناس يرون الصور نفسها ويشعرون في الوقت نفسه بعواطف وأحاسيس متشابهة، ويتملكهم الإعجاب بالأبطال والنجوم أنفسهم، خصوصاً أنَّ أغلبهم يدور في فلك صور أميركا التي هي من أكثر الدول تصديراً للأفلام والصور في العالم: تهيمن هوليوود على رواد السينما الذين يصل عددهم إلى أكثر من مليار إنسان.

يحيلنا الحديث عن ايديولوجيا الصورة في الأساس إلى التعرض لملامح الثقافة البصرية وتقنياتها من خلال الثورة الإلكترونية التي مكنت تحكم سلطة الصورة.

انطلاقاً من علاقة عالم الصور الذي نعيشه بالواقع والحقيقة، تأتي أهمية كتاب «سلطة الصور/دار سحر/تونس/‬2004» للكاتب التونسي مخلوف حميدة، لأنه يبحث خصوصاً في خفايا الصورة المُعولَمة وعلاقتها الجدلية بالأيديولوجيا ويحدد بعض المصطلحات كالرموز الثقافية المختلفة: رمز اللون ورموز الصورة الذهنية والأيقونية والمادية، ويحاول في قراءة للصورة أن يؤسس لمقولة المتن كنص، ولمقولة القراءة الإنتاجية الحرة للنص، كرسالة من منتج استهلاكي موجه إلى مستهلك آخر يستهلكه، مستعيناً بأدوات سيميائية وتفكيكية في اكتشاف تأثيرها اليومي في الإدراك والوعي والثقافة والجمال والسلطة والتاريخ. وهدفه من كل ذلك ألا نكتفي بمحاكمة الصور فقط وألا نبحث في تسرب الأيديولوجيا للصور فقط، وألا نتركها تتكلمنا فقط أكثر مما نتكلمها وتبصرنا أكثر مما نبصرها، إنما علينا، في عصر انتقال الكتابة بالعين، أنْ نسعى أيضاً للمصالحة مع العين، علَّنا نعيد «المتعة» إلى العيون ونرفع عنها غفوتها البصرية.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر