أبواب

الأدب والتحريض

يوسف ضمرة

هل التحريض من مهام الشاعر والكاتب؟

التحريض ينطوي على الحماسة وإثارة الغرائز والمشاعر، وبذلك ينفع في المعارك والحروب لرفع الهمم والمعنويات، وثمة الكثير من الشعر الذي فعل ذلك، ولايزال. والتحريض بهذا المعنى يشبه أغاني العمال والفلاحين الجماعية، التي تسهم في نسيان التعب الجسدي أو التغلب عليه، وتسهم في زيادة الإنتاج والإقبال على الفعل بهمة وعزيمة أشد، وهو بذلك أيضاً يشبه صراخ القائد الهستيري في سباقات التجديف المائية التقليدية، وهو لا يقوم بفعل التجديف، بل يكتفي بالصراخ وشحذ الهمم.

والتحريض في الوقائع الكبرى يحشد الأنصار والمؤيدين الذين يمدون الفريقين المتخاصمين بالثقة في النصر، وبالعزيمة على قطفه وإحضاره لهذه الجماهير، هذا كله يفعله التحريض أو يسهم فيه. ولكن، هل التحريض من مهام الشاعر والكاتب؟

في مرحلة ما يصح القول: نعم هو كذلك، وقد كان كثير من المقاتلين الفيتناميين يذهبون للحرب وهم ينشدون قصائد ماو تسي تونغ، ولكن هذا الشعر مرحلي وآني وراهن، بمعنى أن قيمته تنتهي بانتهاء الوقائع التي قيل لها وفيها، وهذا لا يعني أن جمالياته تذهب هدراً أو أدراج الرياح كما يقال، فنحن نردد حتى اليوم قصائد تحريضية لجماليتها لا لدورها التحريضي، وقد ارتبط الشعر التحريضي بالمقاومة، فظهرت تسميات شعراء المقاومة وشعراء الجنوب نسبة إلى الجنوب اللبناني المقاوم، وهنا تحديداً تكمن أهمية الوقوف عند معنى التحريض، فقد ساد خلط ما بين أدب المقاومة والأدب التحريضي، بين الأدب الثوري والأدب التحريضي، بحيث اختلطت المعاني عند الكثيرين، بل وذهب بعضهم إلى اعتبار أدب المقاومة ينتمي إلى مرحلة زمنية معينة مضت وانقضت، ما يعني انتهاء صلاحية أدب المقاومة في الوقت الراهن، لأن هذا الراهن مختلف عن تلك المرحلة.

مثل هذا الكلام ينطوي على مغالطات كبيرة ربما، فأدب المقاومة ليس مرتبطاً بمرحلة زمنية محددة، أو بواقعة معينة، لأن المقاومة فعل ثقافي مستمر في المجتمعات كلها، والمقاومة هنا ليست بالمفهوم الضيق، الذي يتعلق بمقاومة احتلال ما، وإنما بالمفهوم الأوسع الذي يتعلق بمقاومة المجتمعات لأي عامل خارجي أو داخلي يحاول أو يسعى إلى ضرب المجتمع أو تمزيقه أو تخريب نسيجه.

ومن هنا جاء الاختلاف ما بين أدب المقاومة والأدب التحريضي الذي أشرنا إليه،

فالمجتمعات كلها معرضة على الدوام لغزو ثقافي خارجي من قبل الثقافات الأكثر نفوذاً وانتشاراً وقوة على الأرض، وهي الثقافات الإمبريالية التي تسعى إلى تطويع المجتمعات لتجعلها قابلة لتقبّل المفاهيم الإمبريالية، ما يسهل عملية السيطرة عليها. كما تتعرض المجتمعات لهجمات ثقافية داخلية، بعضها ماضوي كثقافة التكفير، وبعضها عدمي بتأثير النزعات الفردية التي تُحكم أحيانا سطوتها على بعض المجموعات النخبوية المتفلتة، وفي هذه الحال يكون أدب المقاومة عملية دينامية تسهم في تشكيل الوعي الحقيقي غير الزائف، الوعي الذي لا يستند إلى ثقافات سائدة ومهيمنة، والوعي الذي يجعل المرء قادراً على رؤية الحياة من غير زاوية واتجاه، بحيث تصبح الرؤية أوسع وأكثر بانورامية بالضرورة، وقد قال منظّرو علم الجمال الماركسي إن الأدب هو أرقى أشكال الوعي الاجتماعي، وهو قول قد ينطوي على مبالغة ما، لكن فيه الكثير من الصحة والصواب.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر