أبواب

شظايا المعلم

قيس الزبيدي

ينتمي الفرنسي كريس ماركير، حسب أندريه بازان، إلى جيل السينمائيين المؤلفين الجديد، الذي اعتقد أن زمن الصورة قد جاء حقاً، لكن دون التضحية بأهمية اللغة، يهمه التعليق، لكن لا كعنصر يضاف إلى الصورة، إنما كمكوّن أساسي للصورة.. ويضع ماركير لنفسه معادلة فريدة: الكلمات تصبح مساوية للصور، والأفكار تصبح مساوية للحقائق، والفن يتساوى مع الحياة. كيف يُسمى هذا كله باللغة الروسية؟ يسمى ببساطة: دزيغا فيرتوف! ورغم تأثره المُعلن بفيرتوف، إلا أنه أثر أيضا بمنهجه وأسلوبه بصنع الأفلام التسجيلية في سينمائيين بالعالم كثيرين.

شارك كريس ماركير في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني لفرنسا في فترة الحرب العالمية الثانية، درس الفلسفة عند سارتر، وأخرج بمعية آلان رينيه فيلم «التماثيل تموت أيضا» عام 1953 عن سرقة الأوروبيين للفن في إفريقيا ويعد أول فيلم مناهض للاستعمار، عمل مع جان لوك غودار وكتب دراسة مميزة عن فيلم هتشكوك «الدوار» واوجد «الفيلم المقالة» الجوال الذي يتميز فيه التعليق بإثارة الفضول حول نوع من تفاصيل مفضلة، يصاحبها التحليل الجاد: تتابع من شظايا صور، مصنوعة سينمائيا من أشرطة فيلمية طويلة، يصاحبها تعليق ماركير الفلسفي الخاص والمميز.

يرى آلان رينيه في ماركير أنه: «نمط من ناس القرن الحادي والعشرين». وأنه، كما يصفه السينمائي الفرنسي باول بافيوت، يشبه كائنا جاء من كوكب آخر، وإذا ما أراد المرء أن يسميه بكلمة واحدة فهو «الطيار» سافر الى سيبيريا وكوبا وتشيلي والصين واليابان، مع انه يعد واحدا من كبار التسجيليين في العالم، إلا أنه وصف في معرض «وداعا من السينما»، الذي أقيم من سنوات تكريما لمجموع أعماله في زيوريخ، كمؤلف وناشط ومخرج وناقد وفوتوغراف وشاعر وناشر وصانع اعلام.

حينما فاز فيلمه الشهير «مايو الجميل» في مهرجان لايبزغ في عام 1962 بالجائزة الكبرى، قال عنه: لم تكن حميمية الفيلم لتنشأ لولا عدم الاستغناء الكلي عن الإضاءة أثناء التصوير، ولولا استعمال كاميرا خفيفة غاب دورها المتطفل في المقابلات. ويضيف: هناك اتجاه في تطور الفيلم التسجيلي وهو تسجيل الواقع لا عن طريق اختيار مظاهر منه وإخضاعها لرغبات وتصورات مسبقة، البعض يعتقد أنه توجد طريقتان في مقولة السينما التسجيلية واحدة تحدد مسبقا كيف يمكن للواقع أن يكون، وإذا لم يكن الأمر كذلك فإن أصحابها مخطئون والأخرى أن على المرء أن يتصرف إزاء الواقع بتواضع كما هو. وبالنسبة لي نتج فيلمي من تركيبة هاتين الطريقتين، من ناحيتي أنا أحتقر كل الرموز، لأني شخص عيني وأريد أيضا أن أُفهم كذلك.

ارتبط كمخرج بعلاقة مميزة مع المخرج الياباني كيراساوا والروسي تاركوفسكي، وصنع لهما صورة تحية سينمائية: «ا.ك» 1988 يوم واحد في حياة اندريه ارسينهفيش .2000

صانع المقابلات العظيم لم يحب أنْ يعطي مقابلة لأحد، ومصور صور الناس المدهشة، لم يحب أنْ يُصوره أحد، وعندما ظهر في فيلم فيم فندر «طوكيو ـ جيّ» وفي فيلم اغنس فاردا «شواطئ اغنيس» خبأ وجهه تحت قناع قطة. وكأنه أراد لنا أن نعرف فقط سينما خلفها لنا على كوكبنا الأرضي ويرحل، بعدئذ، دون أن نعرف عنه في العلن الشيء الكثير.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر