5 دقائق

ميره القاسم

تكتب لتفتح عين العالم على ما لم يره من دون أن تدّعي أنك سبقته في الرؤية، هكذا هي الكتابة، مبادرة للرصد والانتباه، ومحاولة لهز مفاصل الخامل والجامد والبليد، كل كتابة لا تعيد صوغ الوعي والقناعات والمواقف.. وهي لا تختلف كثيراً عن البيان الأول لإعلان حرب؛ أو حقنة نوم مؤبدة.

الكتابة تحرٍ دقيق للخلل، واستكشاف وفضح للغامض، ولكل اصطناع بصحة الحياة وتفاصيلها، وذهاب حد المجازفة في إزعاج وتخريب مخطط طمأنينات يريد إرجاع هذه الحياة إلى سيرتها الأولى، سيرة الرماد والطوفان والوحشة.

الكتابة قد تتبنى الفوضى في تجريبها ومغامراتها واستكشافها، لكنها ستستدعي حرسها الاحتياطي، وكل أدوات الضبط، ومناخاتها حين تتعرض الحياة التي تتحرك في وسطها لعلامة أو آية أو دالة فوضى، من دون معنى ومن دون قيمة تضاف إلى هذا العالم.

ليست وظيفة الكتابة اتخاذ موقف الفرجة، فيما يراد لها أن تكون الحد الفاصل بين الموقف والغياب أو الغيبوبة، لا فرق.

الكتابة نظام صارم وإن انفلتت في تفاصيلها وتركيباتها ومنحاها ورؤاها وصيغها.

الكتابة مأوى في ضلال البشر وتشردهم وتسكعهم وهذيانهم في الجهات والأوقات أيضاً. هي سقف عالٍ من التفهم والإدراك، واستيعاب تفاصيل من لا حد لتفهمهم وإدراكهم واستيعابهم.

الكتابة مباغتة وإن ضربت موعداً.. لها جنوحها وجنونها، تراها ترقص في مأتم، وتبكي في ذروة فرح. تمطر في جدب، وتتهور في حشرٍ من التردد، وتمعن في هذيانها حين يكون نص الكلام هو المدخل إلى تعريفك بهذا العالم.

الكتابة تقيم ولائمها لعابري السبيل والغرباء، الذين أُحبطوا من تأجيل المواعيد أو عدم الوفاء بها، تراها ربيع الروح في خريف الوقت، ودفئاً في شتاء يكاد يقصم المفاصل والدم.

حين ترى على بعد أميال من الروح بياضاً في كون من العتمة مستتراً بشمعة شبه ذاوية ـ أو هكذا يُظَن ـ من دون سقف في حضرة وابل كأنه نسخة مصغرة من طوفان نوح عليه السلام، فتيقن أن الكتابة هناك في عزلتها تعيد ترتيب وعي العالم، وتعيد ترتيب روحه ومناخاته واستوائه، قبل أن تبتلع الأرض ماءها وقبل أن يأوي البشر إلى طمأنينتهم التي تطمح إليها وتريد. طمأنينة لا تعني التخلي عن عضلتها. عضلة حضورها: ذهاب في القلق حد اليقين وانتصار له.

wahag2002@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

تويتر