أبواب

صعوبات كتابة الحقيقة

قيس الزبيدي

من أين تأتي الحاجة إلى استعمال الحيلة في كتابة الحقيقة؟

وإلى أي مدى تواجه الكتاب صعوبة قول الحقيقة؟

مسألة مهمة طرحها الزميل خليل قنديل في مقالته «النص الموّارب» حول «الاحتيالات» التي يدخلها الكاتب العربي في «نصه» ليجعله قابلاً لأكثر من تأويل، وقد سبق لطه حسين أن تساءل يوماً: أين هو الأديب الذي لا يرضى صحبة الأدب، إلا أن يكون صاحباً مأموناً لا يُعَرّض لخطر ولا يُثير الخوف من غضب السلطان أو أتباعه؟

من المفيد أن نعود لتلك المقالة الكلاسيكية التي دونها بريشت حينما كان وطنه يعيش في «زمن مظلم»، وكانت «الحقيقة» في ألمانيا تُضطهَد وتموه، حينئذ وجد: لكي تنتشر الحقيقة لابد من «الدهاء».

هناك من يعتقد أن كتمان الحقيقة هي مسألة ضمير، لكنه ينسى صعوبة العثور عليها. هناك أيضاً من لا يخافون أصحاب السلطة، ومع هذا نراهم غير قادرين على الاقتراب من الحقيقة. هناك آخرون أيضاً لا يملكون من صفات قول الحقيقة سوى مظهرها الخارجي. وهم يرددون مثلاً، أن للكرسي مساحة للجلوس، وأن المطر يهطل من الأعلى إلى الأسفل، ويبدو للوهلة الأولى صدى حقائق كهذه كما لو أنها مهمة، لكن لدى إمعان النظر، نكتشف أنهم لا يرددون سوى «الكرسي هو الكرسي»، و«ليس في وسع أحد أن يوقف هطول المطر».

«إن من يستخدم في يومنا تعبير المواطنين (السكان) بدلاً من الشعب، وأراضي الإقطاع بدلاً من الأرض، يكون قد توقف عن دعم الأكاذيب، لأن القضية لا تتعلق بخصوبة الأرض ولا تتعلق بحب الإنسان لها ولا بالنشاط في العمل فيها، بل تتعلق في المقام الأول بأن من يجنون الأرباح من الأرض ليسوا هم من يجمعون الحبوب منها. والبورصة لا تعرف رائحة التربة، ففي قاعاتها تفوح رائحة مختلفة». في كل مكان يسود الاضطهاد يجب على المرء استبدال كلمة نظام بكلمة طاعة، وبدلاً من كلمة الشرف يجب استخدام تعبير كرامة الإنسان.

المهم لمن يريد أن يعرف الحقيقة أن يعرف لمن يكتبها، كما أن عليه ألا ينحني أمام الأقوياء ولا يخدع الضعفاء، رغم معرفته أن من يخدعهم يكسب الامتيازات. يبقى على من ينشغل بالكتابة عن «الأوضاع السيئة» بشكل ناجع، أن يكتب عنها بحيث يمكن التعرف إلى من يتحمل مسؤولية هذه الأوضاع السيئة، عندها فقط يتسنى للناس تغييرها. «فما جدوى كتابة جريئة، يفهم منها أن الوضع الذي نغرق فيه وضع (سيئ)، إذا لم يتضح من هذه الكتابة سبب سقوطنا في هذا الوضع». التغيير لا يصبح ممكناً إلا عندما نشرع في وضع المجهر على كل ما لم يتعرض في الواقع للتغيير، لتصبح بالتالي مهمة كتابة الحقيقة خلق الحوافز، التي تدفع الناس للمساهمة في تغيير واقعهم.

من يريد كتابة الحقيقة عليه أن يتحلى بالجرأة على كتابتها، أن يمتلك الذكاء في التعرف إليها، أن يستخدمها كسلاح، أن يعرف أولئك الذين تصبح الحقيقة بأيديهم فعالة، أن يمتلك الدهاء لنشرها بين من تصبح في أيديهم وسيلة للتغيير.

ليس الهدف من كتابة الحقيقة مكافحة الكذب فقط، على كتابة الحقيقة مكافحة كل من يسعى لنشر الكذب.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر