أبواب

صورة الحاضر والماضي

قيس الزبيدي

كان اندريه تاركوفسكي يعد من أعظم المخرجين المبدعين في تاريخ السينما، ولايزال عصياً على المشاهد، ويقول نفسه إن الشيء المهم لديه هو: «ليس أن أصبح مفهوماً من الجميع. لأن العمل الفني لا يمكن اعتباره سلعة استهلاكية». وبالتالي فانه لم يكن يؤمن بوجود «شكل فني محدد لفيلم يستطيع أن يفهمه الجميع».

يكتب إبراهيم العريس: عندما اكتشفت أول أفلامه «طفولة إيفان» كان الأمر بالنسبة لي أشبه بمعجزة حقيقية، ووجدت نفسي فجأة أمام باب غرفة كان ينقصني حتى ذلك الحين مفتاحها. ويتساءل الناقد أمير العمري: إن المرء يخرج عقب القراءة النقدية عن أفلام تاركوفسكي، ليزداد غموضه غموضاً. ويرى الناقد حاجتنا إلى عبقرية نقدية عربية كعبقريته، تضع بين أيدينا المفتاح الذي نحتاجه لفتح أبواب أفلامه المغلقة.

كتبت في الشهر الماضي دراسة مطولة عن مفهوم الإخراج عند تاركوفسكي، تحت عنوان «تحنيط وطباعة الزمن»، حاولت فيها البحث، بالعودة إلى المصادر العديدة التي ترجمت إلى العربية والتي ظهرت بالألمانية، عن ذلك «المفتاح» الذي ربما يساعد على فهم أسلوبه الإخراجي.

منذ أنْ جاء قطار الإخوة لوميير كأنه كاد يخرج من الشاشة إلى صالة المشاهدين المذعورين والهاربين، كانت تلك هي اللحظة التي وجد فيها الإنسان وسيلة للاستحواذ على الزمن، متى شاء، وإعادة إنتاجه في شكل وقائعي، حينها ولدت السينما كمبدأ جمالي جديد، كطريقة جديدة لإعادة خلق العالم المرئي. من هنا نرى كيف يجد تاركوفسكي في الفيلم الإخباري فيلمه المثالي، ليس كنوع فيلمي، بل لأنه طريقة تعيد خلق الحياة، ويبدو كما لو أنه وجد عندئذ «قاعدة الزمن» أساسا لفن السينما.

ومع ان تاركوفسكي اخضع إخراج أفلامه لموقف نظري لمْ يتغير، إلا إنه كان بموهبته الفريدة يجانس بين نظريته الخاصة عن الزمن وممارسته الفنية التي كانت في كل مرة تتنوع وتغتني في عملية تصادم خلاقة بين أفكاره الجمالية وممارسته الفنية. ولمْ يغير مفهومه حول قدرة الفيلم على «تثبيت» الزمن بوساطة خصائصه المجربة والمحسوسة، ولمْ يأخذ انعكاسات الزمن من قوانين فيلمية صرفة، إنما استعملها انطلاقاً من دوافع ذاتية تماماً، وانطلاقاً من اعتباره السينما فناً لنحت الزمن ولإعادة إنتاج سريان إحساسه الزمني.

يتحدث تاركوفسكي كثيراً عن الزمن وبالكاد يذكر المكان، مع أنه لمْ يتسن لأي إنسان أنْ أدرك مكاناً ما من غير إدراكه في الزمان، ولا زماناً ما من غير إدراكه في المكان، لهذا نجده غالباً ما يتحدث عن طاقة القيم الروحية التي يريد أن يجعلها في أفلامه مرئية، من دون أن يربطها بالمكان، رغم أنه بالذات كان مصدراً لوحدة صوره التجريدية التي تزامنت فيها ذاكرة الماضي مع أحداث الحاضر. وقد استعان، في كل ذلك، بالأحلام والتصورات وخيال اليقظة والذكريات، بل حتى بالمادة البصرية الوثائقية القديمة، لكي يجعل عالم شخصياته الداخلية مرئياً، بالتساوق مع مجرى أحداث زمنهم الذاتي الحاضر ومستويات زمنهم الماضي، وكان «ينحت» باستمرار في الزمن و«يحنطه» ويجعله، كما أثبتت أبحاث اينشتاين «البعد الرابع» للمكان، بداية من فيلمه الأول «طفولة ايفان» حتى آخر أفلامه «القربان» كأن لوحاته البصرية، المُتغيرة لمْ تَتغير، والمُكتمَلة لمْ تَكتَمِل.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر