أبواب

تراجيديا الضمير

قيس الزبيدي

تُغير السينما سماتها بسرعة مدهشة ويحدث التكنيك تحولات كبيرة في الشاشة، لكن التكنيك الأكثر كمالاً لا يصبح فناً، صحيح إن التكنيك ينتصر، لكن حينما يتم النصر على التكنيك يظهر الفن السينمائي.

المخرج، في الموسوعة الروسية، هو من يترأس المجموعة الفنية ويدرس المواد التاريخية أو المعاصرة ويحدد الجهود الإبداعية للفنيين وينظم كل الأعمال.

تبقى مسألة كونه يَترأس تَكمن في درجة المسؤولية والمواظبة والصحة والوضوح، وكونه يَدرس تَكمن في كشف ما هو جديد في المادة، وكونه يُوحد تظهر في صدام بين المادة والحياة الخاصة وكونه يُنظم تَتم في صهر أفكار ومشاعر الناس غير المتشابهين في نوعياتهم النفسية.

يحاول كوزينتسيف أن يتعرف إلى رأي أربعة مخرجين حول جوهر فن السينما:

رأي الأول، إنه المونتاج حيث ينكشف العالم من خلال حدة نظرة العدسة ويتفكك إلى صور منفردة «لقطات» ليَتحد منْ جديد على طاولة المونتاج. ورأي الثاني، إنه شاعرية التصوير الدينامي والشعور بالزمن والتيار الذي يمر عبر الصور. ورأي الثالث، إنه عالم الإنسان الروحي الذي تكشفه الشاشة وتجعل ما يحيط به مرئياً، أما رأي الرابع فإنه التغلب على تسطيح التصوير وتجاوز تسطيح الشاشة وإيجاد «الشاشة العميقة». الطريف أن الأربعة هم شخص واحد هو المخرج السوفييتي غريغوري كوزينتسيف، مؤلف كتاب «الشاشة العميقة» - الفن السابع .202 دمشق ترجمة: يونس كامل ديب- الذي يُعَد واحداً من أفضل المخرجين الذين قدموا هاملت شكسبير في السينما، إلى جانب عمالقة آخرين، بلغت السينما معهم سن الرشد، أولهم، طبعاً، الانجليزي لورانس اوليفييه.

لا شك في أن تقديم شكسبير في السينما إشكالية، لا تتطلب الخبرة في المسرح فقط، إنما الخبرة في إخضاع النص المسرحي لنص سينمائي، فبينما كان اوليفييه يعترف بأن تقديم الدراما الشكسبيرية على الشاشة، لا يمكن إخفاء طبيعتها المسرحية، كان كوزينتسيف يكتشف أن السينما أكثر قرباً لشعر شكسبير من المسرح.

أين يكمن سر الاختلاف بين هاملت كوزينتسيف وهاملت أوليفييه؟ يكمن الاختلاف في نفي التعريف أو التحديد النفسي ذي البعد الواحد، خصوصاً أن مسرحية هاملت هي أغنى أعمال شكسبير وأكثرها تركيزاً وتعبر عن أفكاره الفلسفية: لا اعلم، كيف تسير الآلهة في مواكبها/لكن حبيبتي تمشي على الأرض.

يلخص أوليفييه تعقيد شخصية الأمير الدنماركي، كإنسان يُعاني غياب الحَسم والتَردد وضعف الإرادة، ومأساة حكايته هي الانتقام. وهناك من يرى أن هاملت مذنب، لأنه يطيل أمد الانتقام. من هنا حول اوليفييه قصته إلى مأساة ذات فردية تائهة في العُقد النفسية والخوف والهلع، أثناء ما تحيط بها الأشباح من كل جانب.

لكن الشبح، حسب كوزينتسيف، كان نذير شر لأحداث مقبلة، فكل شيء كان يسير في دولة الدنمارك نحو الهلاك، وكان يناقض طبيعة العلاقات الإنسانية. ويقول مارسيلوس في هذا الصدد: «هناك شيء متعفن في دولة الدنمارك».

إن هاملت ليست تراجيديا مُفكر منعزل البتة، بل هي تراجيديا الضمير، تراجيديا إنسان لا يرغب في التهاون مع الانحطاط المُحيط به، تراجيديا إنسان، مصيره أنْ يكون نداً لعصره.

يكتب برتولت بريشت عن هاملت: لو تخلص من الكآبة/لرفع رايته فوق الدنمارك/ولكان المثل الأعلى.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر