أبواب

17 درجة مئوية

علي العامري

تشهد هذه الأيام انخفاضاً استثنائياً في درجات الحرارة في الإمارات، حتى ان الحرارة وصلت إلى أقل من 17 درجة مئوية في عز النهار، فما بالكم أثناء الليل. هذه الأجواء الباردة أخرجت الملابس الشتوية من سباتها في الخزانة وفي الرفوف العالية. وهناك من أسرع إلى محال للتزود بثياب «ثقيلة» تقي البرد الذي «يدخل في العظام»، كما يقال.

دائماً أجواء الشتاء والبرد تجعلنا نلتف حول أنفسنا، نرتدي ملابس كانت مهجورة، ونعيد إليها الحضور بعد غياب، وربما نبالغ في ارتداء الملابس الشتوية، لأننا نريد الإحساس بالدفء، والإحساس بالتغيير، والإحساس بالأجواء المغايرة لما كان سائداً خلال أشهر طويلة، لذلك نرى في هذا الجو البارد فرصة لنعيش إحساساً جديداً.

غيوم خفيفة في الصباح ترشق السماء بألوان معتمة، والبرد يهبط من الأعالي مثل وعول تجتاح أجسادنا من دون هوادة، وفي هذه الأجواء يرتفع منسوب الحنين والذكريات والقصائد والقراءة والتأمل، لنكتشف أننا نرى شجرة في طرف الشارع، للمرة الأولى، مع أنها كانت منذ سنوات في المكان نفسه، وفي أرواحنا أيضاً نكتشف ضوءاً مهجوراً منذ سنوات، لكننا نراه الآن، كما لو أننا نشهده للمرة الأولى، وتتحرك المشاعر في هذه الاجواء، لتغدو «موقداً» يزيدنا دفئاً وحميمية.

في الشتاء نصادق أرواحنا، ونكتشف أقاليم جديدة فيها، مثل «كولومبوس» ذاتي، يستكشف المجاهيل. ومن المعروف أن الصوفية يرون الإنسان كوناً مصغراً، وبهذا المعنى يتبدى لنا أن مجاهيل ومفازات وأقاليم ومدارات وفضاءات ومجرات وكواكب وأقماراً ونجوماً وشهباً وعتمات ونيازك لاتزال مجهولة في الكون الكبير، مثلما هي غير مستكشفة في الكون الصغير. ومهما بلغ الإنسان من العلم، فإنه لايزال يجهل كثيراً من تفاصيل نفسه المركّبة.

وكثير منا يردد أمام الآخر: «إنني أعرفك مثلما أعرف نفسي»، لكن الحقيقة غير ذلك، إذ إنه يعرف جوانب من شخصية صديقه، كما يعرف جوانب من روحه.

هذه الأجواء الباردة تثير الحنين، ويكثر الحديث عن الماضي، عن ذكريات الطفولة، عن أيام المدرسة، عن أول قميص في العيد، عن رحلة إلى البراري تحت زرقة مجلوة، عن أول حب، عن أول وداع، عن أول صرخة، عن أول عتمة هبت باتجاه القلب، عن أول دمعة إثر فقدان عزيز. تتوالد الذكريات، وتتوالد الحكايات، كما تزدهي القصائد، وتتجلى الأرواح في عتمة البرد، كما لو أنها تضيء الأبد في الزائل.

في هذه الأجواء الباردة، ترتفع حرارة الوجد والحنين والموسيقى، كما ترتفع سيرة البحر الذي يطل على مقعد حجري ومدن ترتدي ملابس الشتاء وتضيء ذكرياتها على الشواطئ.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر