يا جماعة الخير

« ولا تَمْنُن تستكثر»

مصطفى عبدالعال

جملة من حرف وكلمتين، لكنها فعلاً آية! ليست في سورة المدثر من كتاب الله عز وجل فحسب، بل آية كبرى تفضح ما نظنه مستوراً من أغراض النفس الخفية، سلوك رخيص يفهمه ويزدريه كل من يراه إلا فاعله! فهو المغفل الوحيد في الليلة. هذا السلوك لفت إليه الإمام القرطبي في تفسيره المسمى الجامع لأحكام القرآن، الذي استخرج فيه الأحكام من أوامر الله عز وجل ونواهيه في القرآن الكريم الذي هو ميثاق المؤمنين ومرجعيتهم. قالها القرطبي للمهتمين بسلوكياتهم في عبارة سهلة بسيطة: « ولا تمنن تستكثر »، أي لا تعطي الهدية تلتمس بها أكثر منها! فهل تأمل أحدنا هذه الآية على ضوء سلوكيات بعضٍ منا في تقديم الهدايا التي قد تكون في صورة دعوة إلى عيد ميلاد مثلاً، لما أدعوك مدعياً أنك من صفوة المقربين، فأرني ماذا ستصطحب معك من هدية رداً على هديتي حين خصصتك بالدعوة؟! وهل سمعت أن بعض الفئات يتخصصون في هذا النوع من الحفلات المتكررة؟ أعياد ميلاد، زواج، نجاح أولاد، ترقٍ في الوظيفة، سكن جديد، ومناسبات تحت أي مسمى، ظاهرها الود والمباركة وباطنها تبادل الهدايا وقضاء المصالح، وغالباً ما تكون المصالح غير مشروعة، لكنهم جعلوا حفلاتهم طريقها المشروع. ولربما أدعوك إلى عشاء ظاهره (العيش والملح) وحقيقته ما حذر الله منه بقوله «ولا تمنن تستكثر». وما مضمون الرشوة وأساليبها بكل صورها المباشرة وغير المباشرة؟ هل يخرج عما حذر الله منه بقوله «ولا تمنن تستكثر»؟ حتى إذا نظرنا إلى صيد البنات بعيداً عن طريق الزواج بالحيل المعروفة من مكالمات ورسائل وهدايا واستدراج بدعوة عشاء أو ادعاء عمل خارج الدوام، أو صداقة الأخت وربما الزوجة لتتاح فرص القرب والاندماج، أليست هذه كلها تصرفات تندرج تحت قوله «ولا تمنن تستكثر»؟

نعم هناك واجبات تفرضها المروءة والأصول لكن لا ينبغي أبداً أن نربطها بمقابل ولو في مثل الموقف والظرف نفسه، فأنت ما وقفت في مناسبات جارك السعيدة وغيرها ليرد ذلك لك وأكثر في مناسباتك، فإذا ما تغيب ولو لعذرٍ أو عجزٍ قلبت عليه الدنيا وعيرته بما قدمت له، هذا من «ولا تمنن تستكثر»، والأولى أن نتخلق بسلوكٍ آخر هو من شيم الكرام الذين مدح القرآن سلوكهم، فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطعَامَ عَلَى حُبهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً - إِنمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}، أتدري لماذا؟ لأنهم فعلوها تحسباً ليوم يغيث الله فيه الملهوف، وينظر فيه إلى من قدموا الإحسان ابتغاء وجهه، فقالوا بعدها: {إِنا نَخَافُ مِن ربنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}، فكافأهم الله بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللهُ شَر ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً - وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنةً وَحَرِيراً} سورة الإنسان آيات 8-.12

في إحدى قرى مصر- بلاد الكرم والشهامة - حيث تنتشر عادة «النقوط» في الأفراح جمعت أسرة أغراضها للانتقال إلى المدينة، وبينما تودّع ربة الأسرة جيرانها بعد عِشرةٍ دامت سنوات، مالت على جارتها وقالت: دفعت لك «النقوط» في زواج أولادك الأربعة وربما لا نلتقي بعد ذلك فردي إلي النقطة.. لو سمحتِ.

المستشار التربوي لبرنامج «وطني»

mustafa@watani.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر