أبواب

شاطروني القراءة

قيس الزبيدي

كان أبوتمام ينصح أحد تلامذته قائلاً: «كن كأنك خياط يفصل الثياب على مقادير الأجسام». وكان كل شاعر من شعراء التكسّب كالخياط المتنقل، يحمل ثوب «قصيدة» واحدة ولا يمدح أميراً بعينه، وإنما يمدح «الأمير»، وهو بذلك لا يمدح الوزير بخصال القائد ولا القائد بخصال الملك، فلكل شخص ثوبه، أما الشاعر المقيم في البلاط فيتحتم عليه أن ينظم قصيدة مدح جديدة، وإذا كانت ناجحة فلن يستخدمها سوى مرة واحدة، لأن شهرتها ستسبق الشاعر وتنتشر في مختلف البلدان، وعرف الشعر العربي من قصائد المدح أكثر بكثير مما عرف من قصائد الرثاء.

في «الكتابة والتناسخ» - دار توبقال للنشر. الدارالبيضا 2008 - يتطرق عبدالفتاح كيليطو إلى السرقات الأدبية والانتحال في الثقافة العربية الكلاسيكيّة، وكما كان قديماً يُقال إن «السرقة» في الشعر هي «ما نقل معناه، دون لفظه» يرى كيليطو أن «بإمكان الشاعر الفحل أن يسرق أبياتـًا تلائم الغرض الذي نبغ فيه، فلا مفر للوديان من أن تصبّ في البحر»، ولا مفر أن يصوغ الشاعر عمله مثل الصائغ الذي يذيب الذهب والفضة، فيعيد صياغتهما. أما الناحل فيشبه مزيّف النقود الذي «يروّجها في واضحة النهار وهي تطابق ما صنع الصيارفة. استطاع عنترة الجاهليّ، في تقليده، كما يوضح ابن رشيق، أن يُسمع صوته بين أصوات الأقدمين بنبرة لا مثيل لها، ولا شيء أدلّ على ذلك من معلّقته:

هَلْ غَادَرَ الشعَرَاءُ منْ مُتَـرَدمِ أم هَلْ عَرَفْتَ الدارَ بعدَ تَوَهـم

الشاعر إذن، قبل كل شيء مُنقب في الآثار التي طواها النسيان أو كاد، ونحن نتعرف في كل بيت وكل قصيدة إلى أصداء أبيات من قصائد أخرى، إذ لا يخلو كل بيت عند الشاعر، مبدئياً، من التلميح وكل بيت شعري عنده ينقل بيتاً آخر. وإذا أردنا أن نتبيّن التفاعل بين التقليد والإبداع، فبوسعنا أن نرجع إلى بيت الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:

لخولة أطلال ببرقة تهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

يبين باختين في مفهوم «تعدد الأصوات» وجود في كل ما نقول أصوات أخرى عديدة تعمل وتؤثر، من هنا نجد أن نظرية التناص تنسحب دون شك على كثير من النصوص الشعرية الحديثة، فنحن نجد أن نظم الأبيات لابد أن يؤدي، بهذا الشكل أو المعنى إلى استعمال أو إلى «سرقة» أبيات أخرى.

وكان أبونواس إذا نصح احدهم أنْ يحفظ ألف قصيدة، يطلب منه ألا ينظم الشعر إلا بعد أن ينساها، لكن كيف يمكن لمن حفظ ألف قصيدة عن ظهر قلب، أن ينسى كل ما علق بذاكرته؟

وفي يومنا القريب كان النقاد العرب يضعون حواجز صارمة بين مختلف النماذج التناصية التي يمكن للشاعر أن يوظفها في المديح، وكان الخطأ الشائع هو مدح الوزير مثلاً بخصال القائد أو مدح القائد بخصال الملك، وأكثر من ينخدع في هذه الحال، ليس من يتسلّم ثمن ثوب القصيدة، إنما من يدفع الثمن ويظن أنه جدير بالثوب الذي فُصل له، وأنه قبل أن يدفع لمن يُفصّل له ثوباً غير ثوبه، يكون قد ارتضى خداع نفسه من دون أن يدري انه قد يدفع يوماً ما ثمناً غالياً لما يظن أنه بهذا يخدع الآخرين؟

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر