أبواب

روح الاتحاد

محمد المرزوقي

مشروعات الوحدة في واقعنا التاريخي المعاصر كثيرة، إذ شهدت بداية القرن العشرين أكبر اتحاد جغرافي ممثلاً في الاتحاد السوفييتي الذي كان أكثر هشاشة من رقائق « التشيبس » فتفتت سريعاً إلى 16 دولة في عام ،1991 ولم ترث هذه القطع المتناثرة من ذلك الاتحاد سوى الفقر والجهل والبطالة في جميع الجوانب الحضارية والإنسانية. أما لو يممنا شطر المشرق العربي فإن أشهر هذه التجارب الوحدوية هو ما حصل في عام 1958 بين مصر وسورية في الجمهورية العربية المتحدة؛ حيث لم تستطع هذه التجربة الصمود سوى ثلاثة أعوام ذاق خلالها الشعب السوري صنوفاً من التهميش والاضطهاد. والجدير بالذكر أن هذا الاتحاد كان آخر عهد السوريين بالتعددية السياسية والفكرية. كل هذه التجارب الوحدوية - وغيرها - كانت تنادي بالتآخي «العرقي والعقدي»، ولا تقبل في الوقت نفسه أن تدفع ثمن تحقيق تلك الأشياء، فكانت تكتفي بترديد الشعارات عوضاً عن ممارستها.

وحده زايد بفطرته الصافية وفهمه النقي للإسلام، الذي لم تلوثه الأيديولوجيات والحزبيات الدينية / القبلية، نجح في هندسة أنجح مشروع وحدوي عرفته المنطقة. وقد أوضح فلسفته هذه في حوار أجراه معه الصحافي رياض الريس ونقلها في كتابه « أحاديث هزت الخليج ». يقول الشيخ زايد: « المصلحة في الاتحاد ليست فقط في الصحة والمعيشة والمسكن والتعليم. المصلحة في الاتحاد هي أيضاً في التعاون بين القبائل والعشائر وكل المواطنين في بناء دولة عصرية. إن دوري هو دور الوالد نحو أبنائه ».

فمحبة الوطن وأهله وترابه الذي بذرنا فيه ذكرياتنا وزرعنا فيه أحلامنا هي قيم إنسانية مكتسبة لا علاقة لها بالنسب ولا بالقبيلة ولا حتّى بالدّين، ومن يعلق المحبة والانتماء للوطن بالقبيلة أو بالأصل فهو ليس سوى شخص ساذج، فهذه قيم غير مكتسبة. إذ لم يفعل الشخص أي شيء لينتمي لهذه القبيلة أو تلك سوى أنّه انتظر ليتزوج والده من والدته لينجباه! بالطبع كان الانتماء للقبيلة في الماضي مطلباً ملحاً وله دوافعه الاجتماعية كتوفير الحماية والعدالة، أما الآن وبعد تشكل الدول المدنية وسيادة القانون أصبحت الحاجة إلى الانتماء للقبيلة غير ضرورية بقدر ما هي حاجةٌ تكميلية ان حصلت، وإلا فإن انعدامها غيرُ مؤثّر أبدًا! فالقبيلة في عصرنا هذا ينحصر دورها في التعريف فقط، فقد خلقنا الله شعوباً وقبائل لنتعارف، أي أنه جعل من قبائلنا وسيلة للتعريف، ويكفي المرء من قبيلته أن يضعها في آخر اسمه في بطاقة الهوية أو جواز السفر!

يقول علماء الاجتماع إن معدلات الوعي لدى الشعوب وما ينتج عنها من تقدم وتنمية وحضارة ترتفع بشكل طردي مع التكريس للفردانية، وتقليص دور الجماعات والانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية في تشكيل عقل الفرد. وفي المقابل فإن معدلات الجهل والتخلف وما ينتج عنها من صراعات وانحطاط اجتماعي تزداد بازدياد التحزب والتعنصر والتشبث بقيم بالية! من حق كل منا أن يتحدث بشيء من الحب والغيرة عن وطنه ومجتمعه وبيئته، لكن أن يتطور - أو بالأحرى ينحدر - إلى درجة تقسيم المواطنين - عن جهلٍ بأصولهم العريقة - إلى درجات بحسب قبائلهم، وترتيب ولاءاتهم للوطن بحسب هذه التقسيمات فهذا أمرٌ مقزز ويبعث على الاشمئزاز!

وهذه التقسيمات، تذكّرني بالقصة التي حدثت في عهد الخليفة الفاطمي عبيدالله المهدي حين شتم أحد الأمويين الذين كانوا يحكمون في الأندلس، فقال له: « أنتم بنو أمية فيكم كذا وكذا ». وكان الفاطمي لا أصل له ولا يُعرف له أب. فردّ عليه الأموي قائلاً: « عرفتنا فشتمتنا ولو عرفناك لرددنا عليك! ».

al-marzooqi@hotmail.com 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر