أبواب

مفارقات الزمن في الأدب والسينما

قيس الزبيدي

يُميز ليسنغ في«لاواكون» بين الفنون القائمة على الوجود في المكان: الرسم والنحت والعمارة، والفنون القائمة على الوجود في الزمان: الموسيقى والأدب. ويتطلب الفن الزمني، بطبيعته، فترة من الزمن يقوم خلالها بعكس الفنون المكانية التي تتأثر، لأول وهلة، بمشكلات الزمن، من هنا انشغل الروائيون أنفسهم بمختلف وجوه الزمن، بعد أن أدركوا أن أعراف سرد قصصهم وأساليبها مشدودة إلى الزمن بإحكام، ولم يعد هناك أي كاتب حديث بارز لم ينشغل بمشكلة الزمن كوسيط في الحياة ومعالجة علاقته كوسيط في الرواية.

يُعد القديس أوغسطين أَول من نَظر حول الزمن كخبرة أو فكرة أو شيء حاضر، ووجد أن بناء أي تسلسل زمني ذي مغزى، يعلل الماضي بوساطة الذاكرة كشيء معين مضى ويعلل المستقبل، بوساطة التوقع كشيء مُقبل. وتساءل برتراند رسل بدوره: هل الماضي موجود؟ كلا، هل المستقبل موجود؟ كلا، الموجود هو الحاضر وحده. لكن العلاقات بين الأحداث لا تُشكل، ضِمن الذاكرة، ترتيباً موضوعياً متتالياً، بل تعكس ـ حسب برغسون ـ حالة من «التداخل الدينامي» في العلاقة بين الزمن والإنسان، لهذا ابتكرت الرواية، ما يسميه توماس مان «الزمن النسبي».

يُمارس الزمن في القصة على شكل نظام وتَنتُج وظيفته الدلالية من علاقته الداخلية مع العناصر الأخرى التي تُشكل بنيته السردية، التي تُحدد تقنيات سرد القصة وزمنها، ويتأتى على زمن السرد أنْ يحافظ على التتابع المنطقي للأحداث المروية، أو أنْ لا يتقيد بتتابع الأحداث المنطقي. وتنشأ، عندئذ، «مفارقة» بين زمن القص وزمن القصة. وقد نَظمت التقاليد السردية أربع علاقات أساسية، أصبحت من الآن فصاعداً تُعرف بالحركات السردية الأربع، وهي:

الخلاصة: سرد أحداث ووقائع جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات.

الاستراحة: سرد يقطع سيرورة الأحداث والوقائع الزمنية ويعطل حركتها.

الحذف: سرد يتجاوز مراحل تتابع القصة.

المشهد: سرد يتساوى فيه زمن مشهد القصة ـ الحواري ـ مع زمن القص.

وانطلاقاً من سرعة الحكاية وحدودها، يستخلص جينيه أن رواية «البحث عن الزمن الضائع» تغطي 44 عاماً في أكثر من 3000 صفحة، فمن صفحة عن دقيقة إلى صفحة عن قرن. ويذكر مندلاو في «الزمن والرواية» تجارب بعض الروايات في سرد زمن: يمتد حياة كاملة كما عند ارنولد بنيت في «حكاية الزوجات»، أو يوماً واحداً كما عند جيمس جويس في«يولسيس»، أو ساعة واحدة كما عند فيليب توينبي في «حفل شاي مع السيدة غودمان»، أو حتى اقل من ذلك كما عند هوراس مكّوي في «إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك؟».

في الواقع لا يتقدم الزمن إلا خطياً من الحاضر إلى المستقبل، ولا يمكن عكس حركته، لكن السينما ابتكرت مستويات مُختلفة، يمكن فيها عكس حركة سير الزمن، بشكل ينشأ فيه انطباع بالعودة إلى الماضي، كما انها استعملت في الأفلام «تقنيات» مبتكرة للزمن، مثل مشهد التوازي أو التزامن أو التَذكر أو التَصور أو حتى عن التوقع لحدث سيأتي في المستقبل. وهكذا أتاحت السينما الفرصة أمام الأدباء للتغلب على «مفارقات» بناء الزمن السردي في الوسيط الأدبي، وفقاً لمستويات زمنية مُستعارة من السينما.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر