أبواب

سرير « بروكروستوس »

محمد المرزوقي

كلما حاولت فهم وتحليل المناخ الفكري والثقافي في العالم العربي، بما فيه من عدم قبول للاختلاف والتعددية، أتذكر فوراً سرير « بروكروستوس » الشهير في الأسطورة اليونانية القديمة. كان بروكروستوس قاطع طريق يطلب من ضحاياه أن يستلقوا على سريره، ويعيد تفصيل أجسادهم ـ قسراً ـ بما يتناسب مع حجم السرير. فكان يقطع الفائض في الطول عند اللزوم، ويشد ويمط قصار القامة إلى أن تتلاءم أحجامهم مع سريره. وسأضرب مثالين على ما أعنيه:

المثال الأول: في ستّينات وسبعينات القرن الماضي، يوم كان قُواد النّهضة الفكريّة في العالم العربي مجموعة من البروليتاريين، من أصحاب الأيديولوجيات القوميّة، كانت الصّورة المرسومة للمثقّف الخليجي آنذاك أنّه عالةٌ على الفكر، وأنّ ثقافته ضحلة، ولا يفرق في ما يكتبه بين حرف الألف والعصا التي يهش بها على غنمه.. إلخ إلخ.

هذا التصوّر الظالم والنّظرة المجحفة للمثقّف الخليجي لم ينقرضا بانقضاء حقبة الشّعارات، بل تسللا إلى زماننا هذا، وأُلصقت مصطلحات وألقاب جديدة بمثقفي وأدباء الخليج مثل: « عرب البترودولار » و« أدباء النّفط ». وأسهم في صنع هذا التصّور أدباء عرب ربطوا الأدب والإبداع بالفقر والبؤس. واعتبروا أنّ كل ما/من هو غير ذلك ليس مبدعاً! وكأنّ الابداع مصاب بالحساسيّة من « الغترة والعقال » مثلاً، أو لا يحبّ رائحة البخور والعود!

وهكذا غرس هؤلاء في أذهان النّاس أنّ أدب الخليج بلا روح لأنّ الشّقاء لم يخالطه، أمّا أدب غيرهم فهو الأدب الحقيقي لأنّه اصطلى بالفقر والعناء ومآسي الحياة اليوميّة!

أسهم في نشر هذه الفكرة أيضاً، أن الشعوب العربية في معظمها شعوب عاطفيّة تحبّ أن تسمع هذه الأشياء، ويحِب أن تقول لها أنكَ كنت تتضور جوعاً عند الكتابة، حتى لو كنت في معظم الأحيان تكتب وأنت جالسٌ في شقتك الفارهة تنتظر طلبك من « بيتزا هت »!

تقول غادة السمان: « تمجيد نتاج الفقير لمجرد أنه فقير أمر يسيء إلى الأدب بقدر ما يسيء إليه تمجيد نتاج فرد ما لأنه أمير ».

المثال الثاني: أدّى اختلاف بسيط في الرأي بين كاتبتين إلى قيام إحداهما بتجريد الأخرى من لقب مبدعة، ما جعلني أستحضر فوراً موقف الناقد الليبي الصادق النيهوم من نزار قباني وما يكتبه من قصائد كان يراها النيهوم مجرد هدر للورق؛ لأنها لم تتلاءم مع مقاييس سرير الإبداع الذي كان يمتلكه!

وبعيداً عن هذا المنهج « البروكروستوسي » في إعادة تفصيل الإبداع على مقاس الشعارات والأيديولوجيات نقول إنه لكي يكون المبدع مبدعاً والإبداع إبداعاً ليس مطلوباً منه أن يكون معادياً للسلطة أو « يوتوبياً » أو غير ذلك من النّعوت الفيزيائية والاجتماعية والشّعاراتيّة!

المطلوب من المبدع شرطٌ واحد، بسيط ومعقّد في آن واحد، هو أن يكون مبدعاً، وقضيته هي ــ ببساطة ــ في ابداعه! فالمبدع بحسب تعريف الكاتبة السعوديّة ريم الصّالح: شخصٌ منحازٌ بالضّرورة للجَمَال، وكلما تمكن من تحرير قلمه من الأفكار الحزبية الضيقة التي تقيده والتصق بإنسانيته قبل كل شيء واحتفظ بعين الطفل التي ترى كل شيء من دون مواقف مسبقة، نجح في تقديم مادة جيّدة.

al-marzooqi@hotmail.com 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه

تويتر