كل جمعة
مدارس.. وصناديق
المدارس أكثر الأماكن الملائمة لاحتضان صناديق الاقتراع، لأنها معروفة في الأحياء السكنية، ولأن غرفها وساحاتها وملاعبها تتسع لطوابير المقترعين، وهي مثالية للتغطية الإعلامية، حيث يُضفي الحضور الإنساني جمالاً خاصاً على المشهد: هنا صورة مسؤول، يضع ورقة في صندوق، وهناك شُرطي يُساعد امرأة مُسنّة على «ممارسة حقها الدستوري».
وحينما تتحول المدارس في البلاد العربية إلى مراكز انتخابية، فلا صلة مقصودة للربط بين التعليم والديمقراطية، باعتبار الأولى شرطاً ضرورياً للثانية، فمن يفوز في معظم انتخابات العرب يفوز لاعتبارات وأسباب، لا تتعلق بالتعليم والتنوير والحداثة، بقدر ما تتعلق بظروف أخرى، لا تحقق أدنى شروط العمل الديمقراطي، بصفته ممارسة إنسانية لتداول السلطة، وتعلّم قبول التعددية، وبناء علاقة عادلة بين الأكثرية والأقلية.
مع ذلك، فلا بديل عن الانتخابات، فالمدارس مفتوحة في مصر الآن، وقبل أيام كانت في تونس والمغرب، لا مفاجآت في النتائج، فالتونسيون انتخبوا الأعداء التقليديين لنظام زين العابدين بن علي، الذي لم يكن أكثر من مستبدّ، استحوذ وعائلته على مقدرات بلد بأكمله، وقمع الصحافة والحريات والنخب المدنية، ثم احتال على الغرب بعلمانية كاذبة، مبتدأها وخبرها منعُ الزواج الثاني. أما المصريون فانتخبوا خصوم حسني مبارك، فيما جرّب المغاربة الصناديق، أملاً بحلول مباشرة لمعضلات داخلية مزمنة.
يُمكن جمع أوراق الانتخابات في البلدان الثلاثة في صندوق واحد، ويمكن فهم دوافع المقترعين في سياق واحد، الناس تبحث عن تغيير، وتريد مصالحها المباشرة، وفي المقابل تبحث الأحزاب الدينية، وغير الدينية، عن مكان جديد، ولا يختلف أي منها في الدعاية الانتخابية على السعي إلى «دولة مدنية ـ تعددية»، ضد تفرد الاتجاه الواحد، والحزب الواحد، لكن الوقت ليس طويلاً أمام اختبار كل الشعارات، ومدى صدقيتها، وصلاحيتها للزمان والمكان.. أيضاً.
لا خوف من النتائج أبداً، فالمسألة تتعلق بفترة زمنية محدودة، يحكم فيها حزب أو ائتلاف، وإذا ما فشل في إدارة أزمات البلاد، لاسيما الاقتصادية والثقافية، بعد أن خضعت شعاراته العاطفية إلى اختبارات فعلية في الشارع، وفي سوق العمل، وفي المؤسسات، فإن صناديق الاقتراع ستُغلق أمامه في المرة المقبلة، وسيكون على تيارات واتجاهات أخرى أن تتعلّم من الدرس، وتُغيّر النهج والأدوات، وفقاً لما تقتضيه قواعد اللعبة الديمقراطية في مجتمعات، يُقبلُ فيها الفقر، واليأس، والإحباط بكثافة على صناديق الاقتراع، في حين يتردد الحُلم والأمل، ويقتنع بالهوامش.
لقد أسقط الربيع العربي ثلاثة أنظمة متشددة، والأفضل أن يصل إلى ثلاثة أنظمة معتدلة، لكنّ هذه صورة مثالية، ربما تصلح لواقع آخر، لا يتسيّده الجهل والفقر المدقع، والذين غادروا ميادين التظاهر والاحتجاج إلى صناديق الاقتراع يعتقدون أن أربعة أعوام فترة كافية لكي يلمسوا بوادر لإصلاح سياسي واقتصادي، يوفر فرص عمل، ويحقق نسبة من الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، ومعها مؤسسات تعليمية وصحية لا يُعشعش فيها الخراب. أسوأ ما يحدث مستقبلاً أن يجد شاب نفسه في طابور طويل للعاطلين عن العمل، بعدما كان قبل أربع سنوات فقط في كامل حماسته وهو يصطف في طابور الاقتراع، ليكتشف أن دولته لا تُنتج سوى العواطف والشعارات، وأنْ ليس بالإمكان.. أفضل مما كان.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .