أبواب

عاشت الديمقراطية

محمد المرزوقي

كثيرةٌ هي الكلمات التي أكرهها في هذه الحياة. كلمة « فلسفة » مثلاً، إلى وقت قريب كنت أعتقد أنّها شتيمة تسللت من اللهجات العامية إلى اللغة الفصحى. أيضا كلمة « الخنفشاري »، لأنّني لا أفهم كيف استطاع عدد من المجانين أن يؤلفوا كلمة - وهم يتعاطون الحشيش ربّما - أصبحت تستخدم على نطاقٍ واسعٍ اليوم لوصف من يدّعي العلم بكل شيء أو المتعالم. أما أكثر كلمة أبغضها فهي « الديمقراطية »، ليس لأنها كلمة مترجمة فحسب، بل لأنها أصبحت فكرة تعيش في القواميس العربية، من دون أن يكون لها أي وجود حقيقي في المجتمعات العربية!

فالشعوب نوعان: نوعٌ يصنع ثقافته بترجمة عملية وواقعيّة للمصطلحات، والآخر يكتفي بالتّرجمة اللغويّة من دون تطبيقٍ فعلي لهذه المصطلحات. ثقافتنا المعاصرة، القائمة أصلاً على الترجمة، اختارت أن تكون من النّوع الثاني وورّطت نفسها في الدعوة إلى ديمقراطية لغوية لا تلامس واقع الناس. فالديمقراطية في الثقافة العربية مجرد مصطلح خرافي لا يعني شيئاً على أرض الواقع، لأنّه مجرّد بديل لغوي عن الواقع نفسه، تمامًا مثل مصطلح العالم الإسلامي. فهو مصطلح يوحي لمن يسمعه بأن هناك شعوباً/دولاً لها تراث ديني مشترك. بينما هي في الواقع تملك - إلى جانب هذا التراث المشترك- تراثاً آخر غير مشترك يقسمها دينياً إلى مذاهب وطوائف لا حصر لها. وهو مصطلح يفترض أننا مسلمون يوحدنا مصير واحد، وهي فكرة رومانسية لا وجود لها إلا في الخيال. فقد أثبتت إيران المسلمة مثلاً، عن طريق احتلالها الجزر الإماراتيّة من جهة، والممارسات البلطجية التي تمارسها في العلن/الخفاء في المنطقة من جهة أخرى، إلى أي مدى تستطيع مصائرنا أن تختلف!

(الديمقراطية) ليست مجرّد كلمة من 10 حروف أو صندوق مغلق، بل هي مواطن ينعم بالسلام/الحرية في مجتمع محرّر من الفقر والخوف والجهل ومن سلطة الأقوياء/الأثرياء. وإذا اختار العرب أن يبحثوا عن معنىً آخر للديمقراطيّة، فستكون نتيجة ذلك طبعاً أن يزداد « القاموس المحيط » كلمة، ويعيش المجتمع في صندوق!

في كتابه « هرطقات » يذكر الناقد اللبناني جورج طرابيشي كيف أن العرب اليوم يراهنون على الديمقراطية مثلما راهنوا في الأمس على الاشتراكية، وقبل الأمس على الوحدة. ففي مواجهة التخلف والهوة التي تزداد اتساعاً بين المجتمعات العربية التي لاتزال ترزح تحت نيران الرجعية، وبين المجتمعات الغربية التي ترفل في نعيم الحداثة. تم تحويل الديمقراطية في الخيال العربي إلى ما يشبه تعويذة « افتح يا سمسم » التي ستفتح أمامهم كل أبواب التقدم والحداثة!

ونسي هؤلاء أن هناك شرطاً واحداً ووحيداً لكي تؤتي الديمقراطية أكلها: يجب ألا تُزرع إلا في تربة صالحة لزراعة الأفكار!

فإذا كانت معظم الأنظمة العربية لا تتحمل إجراء انتخابات حرة، فإن كثيراً من المجتمعات العربية لا تتحمل فكراً حراً ومختلفاً، ومجتمع يريد الديمقراطية في السياسة ولا يريدها في الفكر هو مجتمع لا يفهم معنى كلمة ديمقراطية،

فالديمقراطيّة من دون حريّة الفكر لا تستطيع أن تكون ديمقراطيّة حقاً، وليس بوسعها أن تلتزم بالدفاع عن نفسها، فضلاً عن الدفاع عن حقوق الأقليات والضعفاء!

يقولون - وهذه كلمة تستخدم غالباً لتمرير كذبة ما - أن سيبويه كتب على السبورة يوماً «عاشت الديمقراطية»، وطلب من تلامذته أن يعربوها!

فأجاب طالبٌ نبيه، عاش: فعل ماضٍ.. فات ومات، والضمير في سابع نومة. الديمقراطية: اسمٌ ممنوع من الصرف والتصرف به، لأنّه أعجمي دخيل على « الإعراب » و« الأعراب ».

 al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر