أبواب

حرية أم ديمقراطية؟

قيس الزبيدي

يبدو لأول مرة أن بعض مجتمعاتنا العربية، بعد أن أسقطت ثورة الشباب حكوماتها المُستبّدة، تَتهيّأ لعملية تغيير جذري شامل، يمكن أن تقود إلى ديمقراطية المستقبل الموعودة.

يرى المفكر العربي الدكتور محمد عابد الجابري. أن غياب الحرية نشأ من حالة انشطار طبعت الواقع العربي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأشعلت صراعاً، اصطدم فيه نموذجان: نموذج «الأنا» الإسلامي ويمثل حضور السَلف في الخَلف، نموذج يعتمد الإسلام نظاماً سياسياً واجتماعياً وقانونياً واقتصادياً، وثانيهما نموذج حضارة «الآخر» ويمثل العدوان والاحتكار والهيمنة، كما يمثل الحداثة والتقدم. والسؤال الراهن: أي من هذين النموذجين يستطيع أن يُحقق أهداف طليعة الشباب الثوري؟ أم أن هناك نموذجاً ثالثاً «انتقائياً» يأخذ أحسن ما في النموذجين؟

لقد فرض النموذج الغربي على المجتمع العربي، منذ بداية التوسع الاستعماري، عملية تحديث كولنيالي لبعض قطاعات الدولة: تنظيم عقلاني لشؤون الاقتصاد ولأجهزة الدولة واعتماد العلم والصناعة وتبشير بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكن أصل المشكلة تجذر في عملية التحديث، لأنها نُقلت من الخارج جاهزةً وأصبحت مع الاستقلال تُشكل الهياكل الأساسية للدولة الحديثة.

ومع أن الدولة العربية بنت مخططاتها التنموية باسم التحديث، إلا أنها حافظت على الإبقاء على قطاعات تقليدية وأحيت ما اندثر منها باسم الأصالة، وبهذا عجزت عن تحديد هويتها العلمانية بالمفهوم الأوروبي وعجزت أيضاً عن تحديد هويتها الدينية بالمفهوم الإسلامي. ويرى الجابري أن هذه الدولة، بوصفها دولة ماضٍ/حاضر، لم تكن لتختلف،عن تلك الدولة القهرية المُستبدة، كما عرفها التاريخ منذ معاوية: دولة تكرر نفسها كدولة خلافة عظمى أو دولة قطرية، لا تستند إلى نموذج الدولة الدينية ولا إلى نموذج الدولة العلمانية.

المشكل المطروح فعلاً ليس مشكل العلاقة بين الدولة بالدين أو الدين بالدولة، بل مشكل الدولة ذاتها، سواء لَبست لباساً علمانياً أو لباساً دينياً. المشكل مَنْ يحكم وما الذي يبرر سلطته ويؤسسها فعلاً؟ بمعنى آخر أن انبثاق الحكم لم يأت من إرادة المواطنين أو من ضمان إمكانية تغييره بإرادتهم الحرة.

لقد لعبت السياسة في المجتمع العربي، منذ بداية تشكلها، المحرك الأساسي وارتبطت جذرياً بالحياة الفكرية وكانت السياسة، لا العلم، أساس الصراع، حتى داخل المجتمع نفسه.

ولعب النموذج السلف دوره في دفع الفكر «إلى التعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية وجعل اللا عقل ينوب عن العقل» وانتفت بالتالي علاقة الفكر بموضوعه وأصبحت مفاهيم النهضة، ومنها الثورة والشورى والديمقراطية والدولة الإسلامية والاشتراكية والبرجوازية، مفاهيم لا تحيل إلى شيء واضح ومحدد، ولا تجد أصلها وفصلها في الواقع العربي.

نحن، إذن، لمْ نختر النموذج الغربي بمحض إرادتنا، ولمْ نختر ما تبقى لدينا وفينا من النموذج التراثي، لأنه إرث، والإرث لا يتم اختياره، لأنه ماضٍ.

كان الجابري في رؤيته للمستقبل ينتظر قيام انتلجنسيا جديدة، تُوظف رؤى علمية في إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وبناء المستقبل. لكن حصل أن جاءت ثورة الشباب بديلاً عن تلك الأنتلجنسيا المُنتظرة من أجل نموذج مجتمع جديد يتحرر فيه الإنسان من سجن معارفه القديمة، تحكم فيه الأكثريّة الواعية، يَسن دستوراً يضمن حماية حقوق الأفراد والأقليات ويقنن تداول السلطة سلمياً بصورة دورية.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر