أبواب

عين على العالم

قيس الزبيدي

يبدو الدافع من وراء كتاب « فن القصة » لعديّ مدانات بمنزلة نداء « استغاثة » لإعادة الحياة إلى مستوى كتابة القصة القصيرة، الذي أخذ يتراجع، وإلى إعادة الاعتبار إلى فنها لأنه « يملك القدرة على التغلغل في النفس البشرية ويكشف غوامضها وأسرارها ».

يخصص مدانات نصف كتابه تقريباً للبحث في الصلة الحميمة بين كاتب القصة والحياة، لأنه يرى أمر الكتابة لا يستقيم من دون معرفة الحياة بمرها وحلوها، ولأن تجربته الإنسانية فقط تكشف له ما خفي عليه وما تجاهله، خصوصاً أن القاص عمل محامياً لأكثر من 40 عاما،ً وجعله عمله يقترب من أفقر الناس حالاً إلى أكثرهم رغداً وسلطاناً، ومكنه من أن يكشف طواياهم وخفاياهم ويتعرف إلى حياتهم النمطية ولحظاتهم الاستثنائية، ما أغنى ذاكرته، التي اختزنت الوقائع الحية وأثرت كتابته الإبداعية، فلا يكفي أن يكون المبدع متلقياً، بل يكون مبادراً، يرفد مخيلته بكل ما يثري إبداعه، لأن المخيلة الثرية المروّضة بالوعي، هي التي تجعل كتابته غنية ولأنها تحتاج إلى مهارات عالية ومخيلة عامرة وقوة خيال، تيسر له اختيار النماذج البشرية والأطر الحياتية الجديرة بالقص.

ينطلق الكاتب أولاً من مرحلة تنمية عناصر العقل وقدراته: الانتباه، المبادرة، الذاكرة، الخيال والمخيلة، الفكر والتفكير، الإرادة، ثم المزاج والذائقة، ويتناول أخيراً عملية الخلق إلى هدفه في تفحص هذا اللون من الإبداع وفي معرفة آفاقه وعلاقته الجدلية ببقية أنواع الفنون المجاورة.

نذكر أن مدانات أصدر في القصة: « المريض الثاني عشر غريب الأطوار » (1983)، « صباح الخير أيتها الجارة» (1987)، «شوارع الروح» (2003)، «الأعمال الكاملة» (2006)، «حكاية السوار العتيق» (2010). وفي الرواية: «الدخيل» (1992)، «ليلة عاصفة» (1995)، «تلك الطرق» (2008)، وسبق أن قال الكاتب والقاص الفلسطيني محمود شقير عن لغته في القص: « في قصصه بنية فنية متماسكة فيها ميل مدروس نحو السهولة والبساطة والشفافية التي تضعنا وجهاً لوجه أمام ما يطلق عليه النقاد السهل الممتنع في الكتابة القصصية».

الطريف وأنا أكتشف تجربة مدانات، خلال أربعة عقود، في رحلته الشخصية في عالم القصة وفنها، أنها رحلة شبيهة بتجربة سيد فيلد الشخصية، خلال أربعة عقود، في كتابة فن السيناريو. وان مدانات يقرأ كما قيل عن سِيدْ فيلْد، تجربة كتاب القصة في العالم بعين ثاقبة وبتحليل عميق، يحدوه الأمل في أن تساعد رحلته الشخصية، أولئك الذين تحدوهم الرغبة في الكتابة في عالم القص وأساليبه وفنه، لكي تضيء له الطريق وتوسع من مداركه الخاصة ومن فهمه لفن القصة.

يتمنى مدانات في ختام كتابه أن يكون قد نجح في تحفيز قارئه على تتبع أثره في فن القصة وفي لغة سردها، فتتبع التجربة الثرية يعني اطلاع الآخر عليها ليصير له علم بها ودراية، ليأتي تنسيق سرده، عندئذ، متتابعاً ويصبح نسجه متسقاً، وهو في كل هذا يفتح عينه على العالم ويمرنها على رؤية الناس والأشياء ليحصل على عين جيدة، وينطلق بمهارة في رحلته الشخصية في طريق الإبداع، لأن المهارة وحدها هي سلاح الوعي.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر