5 دقائق
التنافس غير الحميد
يعيش الناس اليوم حياة تنافسية فجة، يتسابقون فيها إلى مفاخر الدنيا وزخارفها، لا يبالون أصابوها من حلها أو من حمأة حرمتها، المهم أن يكون لأحدهم زخرفها في البيت، ومركب فاره، وهندام محترم، فضلاً عن صيد بالغ، وجاه عريض، ويتناسون أن ذلك قد يكون وبالاً عليهم إذا لم يكن كسب ذلك مقترناً بشرع الله القويم الذي قيد وضع العباد بما يحميهم من انتهاك محارمه، المؤدي إلى غضبه ووبيل عقابه، فإنه سبحانه خلق لعباده ما في الأرض جميعاً؛لينتفعوا بها بما ينفع ولا يضر.
ومن أشد الأشياء ضرراً، وأكثرها خطراً وشرراً، التنافس في الدنيا من غير حلها، فإن ذلك يحمل على الظلم بين العباد، فيأكل القوي الضعيف، ويختِل المنتهز القريب والبعيد، ليحظى بما يقدر عليه مما في يده، لا يرقب في ذلك إلاً ولا ذمة، وأصل ذلك كله تنافسه في الدنيا الفانية التي نرى عِبرها كل يوم، ولا يتعظ منها إلا القليل، وقد كان السلف يقولون: حب الدنيا رأس كل خطيئة.
والمتأمل لذلك لا يخفى عليه هذا الأمر، فهذا آدم عليه السلام ما دخل عليه إبليس (عليه اللعنة) إلا من هذا الباب {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَة الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}. وكذلك بنوه من بعده، فإنهم ما سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم إلا من هذا الباب، ها نحن نرى هذا الهرج والمرج الذي تعيشه الأمة اليوم، ما سببه؟ وما أهدافه غير التنافس غير الشريف على دنيا مؤثرة، السريع تقلبها وزوالها؟ فهي تطحن الجميع بكلكلها ثم يخرجون منها كما دخلوا، فلا يأخذ أحد منها إلا ما قدمه لغده، أو أفناه في حياته، ولو أن كل إنسان أخذها من حلها وصرفها في حلها لعاش الناس جميعاً في خير.
فما الذي يحمل التاجر على أن ينتهز حاجة الفقير وهو يعلم أنه لا غناء له عن سلعته، والفقير التاجر لينصب له ويخادعه وهو يعلم أنه لولا هو لما وصل إلى حاجته؟
وما الذي يحمل الراعي أن يظلم رعيته ويسفك دماءهم ويستحل أموالهم وهو ما كان راعياً إلا بفضلهم، ولولا هم لما كان إلا واحداً من الناس لا حول له ولا طول؟ وما الذي يحمل الناس على منازعته منزلته وهم يعلمون أنه لابد لهم من راع يقودهم في مصالحهم، وهم يقدرون على معالجة الوضع بغير ذلك؟وهكذا تتوالى الأسئلة التي تنتج عن التنافس في الدنيا وحبها حباً جماً، حباً يجعل الآذان صماً والأعين عمياً، وقد قال الهادي البشير صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
نعم هناك تنافس شريف وهو الذي يكون مقيداً بضوابط الشرع، فلا تنتهك فيه الحرمات، ولا تستغل فيه الحاجات، ولا يبخس الناس أشياءهم، فعندئذ يقال لكل أحد دونك ما اسطعت أخذه ولو أن يكون لك مال قارون، وملك سليمان، وحكمة لقمان، فذلك مما لا ضير فيه إذا روعي حق الله فيه وحق العباد، وعندئذ يعيش الجميع في هنأ الدنيا وينالون نعيم الآخرة، ومحمدة الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .