أبواب

فلسطين هي السبب

محمد المرزوقي

نادراً ما أتابع البرامج الحواريّة ذات الطابع السياسي، خصوصاً تلك المثقلة بالأيديولوجيات المنقرضة والشعارات الخاوية والتحليلات المضحكة، كأنّها أعدّت لإلحاق الأذى بنفوس المشاهدين. وصارت لدي خبرة لا بأس بها في اكتشاف البرامج الرّديئة من عناوينها، أو من اسم القناة التي تعرضها، وأحياناً من نوعية الضيوف، وهكذا خلال جولاتي اليومية بين القنوات الإخباريّة العربيّة، أكتفي بمشاهدة سريعة أكتشف خلالها البرامج التي لا تستحق المتابعة «إذ أشم رائحتها فوراً»، وتلك التي تستحقّ المتابعة «وما أقلّها»!

وأحاول الآن التقاط الفكرة التي قادتني -بحماقة- إلى مشاهدة برنامج حواري، بعد ظهيرة يومٍ رتيب، يتناول مستقبل الربيع العربي، فضيف البرنامج كان يُنظّر «بضمّ الياء وتشديد الظاء» للثورات العربية بمنظور القوميّين العرب: فالثورات العربية -حسب رأيه- تقاس شرعيتها/عدالتها بموقفها من القضية الفلسطينية! وغياب القضية الفلسطينية -حسب رأيه أيضاً- عن وجدان الشعب العراقي بعد الاحتلال الأميركي أدّى إلى اندلاع حربٍ طائفيّة بين السنّة والشيعة، وهكذا طوال البرنامج ينهمك الضيف في تقزيم القضايا العربية، لتبدو القضيّة الفلسطينيّة أمامها كأنّ على رأسها ريشة!

وهذا بالضّبط ما كان يفعله القوميّون العرب «ومن بعدهم الصحويّون»، فقد أسهموا على مدى عقود في ترسيخ مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة في الوجدان الجمعي لدى الشعوب العربيّة، وتهميش الدم المسفوح في أي أرضٍ أخرى، حتى لو كانت هذه الأرض عربيّة، ومسلمة، ولا تبعد عن فلسطين سوى ساعة بالطّائرة، وتشكّلت نتيجة لذلك في أذهان الجماهير العربيّة صورة الوطن العربي الواحد الذي يأتي أعداؤه من الخارج فقط، وبالتّحديد من إسرائيل!

لم يكن أحد يريد -مثلاً- أن يجيب عن السؤال البسيط: لماذا بقي اليمن بلداً متأخراً أكثر من سواه طوال عقود؟ أو لماذا كان اليمن السعيد غير سعيدٍ على الدّوام، ما دامت الثلة التي تناوبت على حكمه تشتم إسرائيل؟

ولم يكن أحد يهتم بالمجازر التي كان يقترفها صدّام حسين، طالما كان يصنع من ضلوع ضحاياه سلماً، ومن جثثهم منبرًا.. يعتليه ليشتم إسرائيل!

وهكذا كانت الأنظمة القمعية، تكتسب شرعيّتها/شعبيّتها عن طريق شتم إسرائيل.. حتى لو كانت كالعقيد معمر القذافي مثلاً.

قبل يومين «30 سبتمبر» كانت الذكرى الـ11 لاستشهاد الطّفل محمّد الدرّة، ذكرى أعادت إلى الأذهان مشهد «الدرة» والرّصاص ينهمر عليه ويخترق جسده. ومشهد والده وهو متعلقٌ به، رغم كل المحاولات لتفريقهما، إلا أنّه يرفض أن يترك صغيره وحيدا، كان يشعر أنّه بذلك يتخلى عنه مرة أخرى! ومشهد والدته وهي ترفض أن تصدّق أن طفلها مات، ربما كان طفلاً يشبهه، له مثل ملامحه: وجهه، عيناه، بسمته، لكن ليس له مثل قلبه!

يبدو الفلسطينيون أحياناً -بالمقارنة- في وضع مختلف، لأنهم يواجهون احتلالاً، لكن الشعوب العربية المقموعة تواجه أنظمتها نفسها، إذ إن كل نظام عربي/قمعيّ عجز عن مواجهة «تل أبيب»، فأمسك بـ«تلابيب» شعبه!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر