أبواب

العاطلون عن الحياة

محمد المرزوقي

الكاتب المسرحي علي سالم هو أوّل من تنبه إلى أن للموت ثقافة، وكتب عنها وعن الموت في عام 1994 في مجلّة « كاريكاتير » المصريّة. فكما أن للحياة ثقافة تحتضنها وتحضّ عليها، فالموت كذلك له ثقافة ترعاه وتروج له، مع فارقٍ غير بسيط. فثقافة الموت ـ بحسب علي سالم ـ ثقافة عاجزة. تعجز عن التعايش مع الحياة كما هي عليه، وتعجز عن تغيير أو إصلاح هذه الحياة. هذا العجز في التعامل مع الحياة يجعلها تلجأ إلى الهروب منها، والالتفاف حولها إلى أن تصل إلى مرحلةٍ تتحوّل فيها هذه الحياة إلى حملٍ ثقيل لا يستطيع المرء أن يتخفف منه إلا بالموت!

تشير الإحصاءات إلى أن أعداد الذين ينتحرون سنويًا في اليابان تزداد بشكلٍ مقلقٍ ومستفزّ. ففي عام 2009 وصل العدد إلى 32.845 منتحرًا، أي بمعدل حالة انتحار واحدة في كل خمس عشرة دقيقة!

قد يفسّر غياب الدّين ـ بشكلٍ عام ـ عن الحياة اليابانية هذا الارتفاع الكبير لنسبة الانتحار بين اليابانيين، فديانة « الشنتو » التي تعتنقها الأغلبية العظمى من اليابانيين لا تدين الانتحار، ولا تجرّمه كما تفعل الديانات الإبراهيمية الثلاث، ولكنها في الوقت ذاته تقدّر الحياة وتقدّسها.

أشارت دراسة نشرتها صحيفة « التايمز » اليابانيّة إلى أنّ هنالك صنفين ممّن يقدمون على الانتحار في اليابان: صنفٌ خسر وظيفته ولم يتحمل أن يستيقظ كلّ صباح ليجد نفسه عاطلاً عن العمل، وعن نفسه، وعن الحياة.. فيلجأ إلى الانتحار. أمّا الصّنف الثاني فهو من ينتحر بسبب تقصيره في أداء عمله كما حدث مع وزير الزراعة والغابات والثروة السمكية توشيكاتسو ماتسووكا، الذي شنق نفسه في شقته بعد أن نالته موجة حادة من الانتقادات والمساءلات والاتّهامات.

لذلك ليس غريبًا أن يكون الانتحار في اليابان عادة مقبولة اجتماعيًا، فهو في حالات كثيرة يمثّل أعلى مراتب الإيثار والتضحية!

فالانتحار لدى الإنسان الياباني المحبّ للعمل ليس لحظة ضعف أو يأس، بل هو شكلٌ من أشكال ممارسة الحرية الشخصية التي يرفل فيها اليابانيّون، وهو قرار شجاع يتخذه الياباني عندما يدرك أنّه صار زائدًا على الحياة!

الأكثر بشاعة من الموت، أن تكون الحياة ترفاً وممارسة زائدة على حاجة الأحياء. والأكثر بشاعة من ذلك، أن تكون حياة المرء غير صالحة للاستهلاك!

فالشّباب الذين يقودون سياراتهم الفارهة بسرعات جنونيّة هم أيضًا يحاولون تجريب طريقة مبتكرة وأرستقراطية للانتحار، وذلك باستخدام سيارة « فيراري » أو « بورشه » عوضًا عن حبل غسيل أو سمّ الفئران!

والإرهابيّون كذلك، استبدلوا أدوات الانتحار الكلاسيكية كالأدوية والسّموم بالدّيناميت والأحزمة النّاسفة من أجل انتحار عصري يمتاز بالعنف!

والعاجزون ماديًا، يختارون الانتحار لأن الموت ـ بالنسبة لهم ـ أقل كلفة من الحياة، والمرء بطبعه مولعٌ بالبحث عن الأشياء الرخيصة وتجربتها، لكن الفرق بين هؤلاء وبين اليابانيين أنّهم لم ينتحروا إيثارًا وتضحية، وإنّما انتحروا بطرًا وسأماً وخيبة..!

 al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر