يا جماعة الخير

أسطوانة أبي لبابة

مصطفى عبدالعال

هل لفتت انتباهك هذه الأسطوانة في الروضة الشريفة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنها هناك في المقدمة يساراً، ومكتوب عليها اسم هذا الصحابي الجليل منذ أكثر من 14 قرناً، شاهدة على توبة الله عليه، وذكرى لمشهدٍ مؤثرٍ عاشه الصحابة أسبوعاً كاملاً.. لما ربط أبولبابة نفسه بها ضجراً من خيانته رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتصاماً ضد نفسه التي أراد تأديبها وفضحها، وما شرب رشفة ماء ولا وضع لقمة في فمه سبعة أيام.. ترى ما الجريمة التي فعلها أبولبابة؟ التي نزل بشأنها قرآن ينعى عليه خيانته، فيقول سبحانه { يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } الأنفال «27».

وهو الصحابي الجليل رفاعة بن المنذر بن زبير بن زيد الأوسي الأنصاري، الذي شهد بيعة العقبة نقيباً، وشهد غزوة أحد وما بعدها، وكان يفتدي النبي بنفسه، وكان محل ثقته، وهو أهل لذلك، حتى يستخلفه صلى الله عليه وسلم في المدينة عند خروجه منها.. ورغم هذا كله - ليعتبر العقلاء - ينعى القرآن عليه جريمته، إنها جريمة الخيانة العظمى لرئيس الدولة، وفي حالة الحرب! لما خان يهود بني قريظة معاهدتهم مع الرسول، وأعانوا الأحزاب في غزوة الخندق، وأمر الله رسوله بعد فرار الأحزاب بتأديب بني قريظة فحاصرهم، طلبوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، لكن يأتيهم أبولبابة لاستشارته لما يعرفون من عقله وأمانته، فلما ذهب إليهم سألوه: ترى لو نزلنا على رأي سعد بن معاذ ما تظن أن يُفعل بنا؟ فلم يتكلم إنما أشار بيده على رقبته بعلامة الذبح! تلك كانت الخيانة، إذ أخبر عن موقف ما أذن له النبي بقوله. فما كان منه قبل أن تنزل يده إلا الندم والإحساس بالخيانة، فهام على وجهه ورجع، لا إلى حيث المسلمون مع النبي ولا إلى بيته، وإنما إلى المسجد ليربط نفسه في أحد أعمدته، ويقول: والله لا أحُل نفسي منه، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى يتوب الله عليّ أو أموت.

وكانت ابنته أو امرأته تَحُله إذا أراد الصلاة أو قضاء الحاجة، ثم يعود حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رأى حاله: « لو جاءني لاستغفرت له »، ومكث على هذه الحالة سبعة أيام حتى خرّ مغشياً عليه، حينها تداركته عناية الله، فتاب عليه، وأنزل فيه: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِن اللّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ} التوبة «102»، فتبسم الرسول وطار الخبر إلى أبي لبابة، فقال: والله لا أَحُل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلني، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحله بيده.

فهل يعي ذلك كل من لا يراجع نفسه، لربما خان الأمانة، أو سعى بنميمة، أو تلصص على عورات الناس؟ مجردُ إشارةٍ على الحلق فقط، ما رحم فيها صحابي نفسه حتى اطمأن إلى توبة الله عليه، فكيف بمن يبيع الأخلاق ويخلط الأوراق وتَقَر عينه بقطع الأرزاق؟ هل هو مطمئن على دوام ستر أفعاله أو يتعشم في حسن الختام؟

المستشار التربوي لبرنامج «وطني»
mustafa@watani.ae 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر