أبواب

جبر وبهرام

علي العامري

فنانان كبيران، ليس بفنهما فقط، بل بإنسانيتهما العميقة، وإحساسهما الذي يؤكد دائماً أن الكبير كبير في كل تفاصيل حياته وسلوكه ومنجزاته. الفنانان هما العراقي جبر علوان والسوري بهرام حاجو، وكلاهما عالميان، حققا حضوراً خاصاً في حركة الفن التشكيلي، هما استاذان في الفن والحياة والحب والغربة والخسارات والفرح والانكسارات والإبداع.

في الرحلة اليونانية، التقيت الاثنين وفنانين آخرين في الدورة السابعة من سيمبوزيوم باترا الدولي. وشهدت تواضعهما، وعرفت جانباً من شخصية كل منهما عن قرب خلال أيام الملتقى الذي نظمته مؤسسة « يرفا » الثقافية، بالتعاون مع جامعة باترا و« اليونسكو » في أغسطس الماضي.

جبر علوان ابن بابل، درس الفنون الجميلة في بغداد، ثم في إيطاليا، حيث يعيش في روما منذ نحو أربعة عقود، بعيداً عن وطنه العراق. وفي روما أصبح الوطن في الذاكرة، زمن يعيش في زمن، وصور تعيش في صور، ليظهر حصان المدرسة وألوان الفصول الأربعة وروح امرأة بلاد الرافدين في لوحاته.

في فنه، كما في حياته اليومية، يؤكد جبر علوان أنه كبير في كل تفاصيل سيرته، وفي ملتقى باترا التشكيلي كان له حضور آسر وخاص. كان يتفقد الفنانين، ويتابع أعمالهم خلال الورشة، ويشجع من يحتاج إلى تشجيع. كان يتنقل بين لوحته « عازف الأوكورديون » التي رسمها في الملتقى، وبين زملاء اللون والحرية والإبداع. أما في الجلسات فكان يقرأ الشعر، ويتذكر الآخرين بمحبة، ويمازح المشاركين بمحبة أيضاً. كان يمارس طفولته بمرح، على الرغم من الغربة المكثفة التي تتقطر في روحه، مثل ضوء جارح.

وكان علوان قال إن هناك مشروعاً مشتركاً بينه وبين الشاعر محمود درويش، لإنجاز عمل عن الوحدة، عبر تآخي اللوحة والقصيدة، لكن الموت كان بالمرصاد للشاعر وللمشروع الإبداعي أيضاً.

أما الفنان بهرام ابن القامشلي، فيشترك مع علوان في الغربة والبعد عن الوطن أيضاً، علاوة على قواسم مشتركة عدة. بهرام لم يغادر روح الطفولة أيضاً، وهو يعيش في ألمانيا منذ ثلاثة عقود، بعيداً عن سورية. درس الفن في بغداد، ثم في ألمانيا، وحقق بصمته الخاصة في تجربته الفنية، إذ تتمركز أعماله حول الإنسان، رجلاً وامرأة، والعلاقة بينهما.

لوحات بهرام مفتوحة على التأويل، وهو مقتصد في الشكل واللون، لكن لوحته تفيض تعبيراً، إنها لوحة بأقل الألوان وبأقل الخطوط، يختزل الشخوص في لوحاته إلى درجة تكاد تلامس التجريد، ويترك فضاء رحباً لتتنفس اللوحة، ويتنفس الشخص الذي يجسده، ويتنفس المشاهد، ويتنفس الفنان نفسه.

في أعماله يرسم بهرام نفسه في حالات متعددة، إنه يغوص في جُوانيّة الإنسان، ويمارس حريته في الرسم كطفل يلهو بمتعة بلعبته المفضلة.

في باترا، كان بهرام في كل تفاصيل سلوكه كبيراً، كان لا يطلب مساعدة من أحد لحمل القماش أو الألوان، بل بنفسه يحمل بياض اللوحة الشاسع، ليبدع ويعبر ببلاغة الاختزال. وكان أيضاً يطوف ويشجع من يلزمه التشجيع. وفي الجلسات خارج الورشة يكون أيضاً المبتسم والودود والمحب والطفل من دون حدود.

هكذا هم الكبار في أرواحهم العالية، وفي فنهم المدهش، وحتى في ظلالهم، وهم يمرون قرب شجيرة في حديقة.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر