أبواب

مدينة المشردين

سالم حميد

مدينة سياتل الأميركية، الواقعة في أقصى شمال غرب الولايات المتحدة، تُعد إحدى أجمل المدن الأميركية، ذات الطبيعة الخلابة وأغناها أيضاً، فهي المقر الرئيس لشركات تجارية عملاقة مثل شركة « بوينغ » لتصنيع الطائرات، و« أمازون دوت كوم » لبيع الكتب، و« مايكروسوفت »، وشركة المقاهي الشهيرة « ستاربكس »، وغيرها من الشركات المصنعة للقهوة، حيث يُطلق عليها الأميركان مدينة القهوة نظراً لولع أهلها الشديد بالقهوة، وتتميز هذه المدينة أيضاً بطقسها الجميل والمعتدل على مدى العام، وهذا الجو المعتدل جعلها مقصداً للمشردين، الذين يتخذون هذه المدينة مأوى لهم في الحدائق العامة ومحطات المواصلات والأزقة والمباني المهجورة والشوارع، وغيرها من أماكن، في ظروف صعبة لا تناسب حتى الحيوانات، فما بالك بالإنسان!

لمركز مدينة سياتل سوق شعبية جميلة، مطلة على البحر، تكثر فيها المتاجر والمحال المتنوعة، والمطاعم التي تقدم الأكلات البحرية، وميناء صغير يربط المدينة مع بعض الجزر التي يسكنها في الأغلب الأثرياء، يتنقلون عبر الضفتين بالبواخر الضخمة التي تستوعب أعداداً كبيرة من السيارات. وبعد رحلة الباخرة الجميلة، عدتُ مرة أخرى إلى السوق الشعبية وتوجهت نحو أحد مطاعم « صب واي »، واشتريت « ساندويتش » من الحجم الكبير، وبمجرد أن خرجت تبعني أحد المشردين قائلاً « سيدي، هل أنت متأكد أنك قادر على التهام هذا الساندويتش بأكمله؟ ». رأيت البؤس في عينيّ المشرد، فأجبته « معك حق »، وقمت بشطر الساندويتش إلى نصفين وأعطيته احدهما. وبعد جلسة هادئة على الكورنيش، استقللت الحافلات العامة، التي توفر خدمات نقل مجانية في وسط المدينة، في خطوة لسلطات سياتل تستهدف الحفاظ على البيئة وتشجيع السكان على التقليل من استخدام السيارات الخاصة وسط المدينة، وعندما وصلت إلى المنطقة حيث اسكن في أحد فنادقها، حاولت عبثاً الوصول إلى الفندق على الرغم من أني أعرف المنطقة ودرت فيها لمرات عدة، ولكنني لم أجد الفندق، حينها أدركت أنني أضعت الطريق، وشاهدت مشرداً ثملاً مستلقياً في الشارع، يشرب ما تبقى في زجاجته، فتوجهت نحوه وسألته « عفواً، هل تعرف الطريق إلى فندق وورويك؟ ». أجابني بعد أن تجشأ « هو قريب جداً من هنا، ولكن هل تعتقد أنني سأجيبك بالمجان؟ عليك أن تدفع دولارين أولاً، لأنك إذا ركبت التاكسي فستكلفك العملية على الأقل 10 دولارات، أما أنا فسأمشي معك راجلاً نحو الفندق بدولارين فقط ». أعطيته الدولارين، وقلت له « لا حاجة إلى أن تمشي معي، فقط دلني على الطريق ». أجابني « ومن قال لك إنني سأمشي معك؟ ». أجبته « إذاً أنت خدعتني! »، فقال « انظر خلفك »؛ كان الفندق يقع في الجهة المقابلة للمشرد تماماً، وعلى بعد خطوات فقط!

عموم سكان سياتل يتميزون باللطافة، وكذلك مشردوها كصاحبنا هذا، عكس المشردين في نيويورك، حيث حصل لي موقف حرج للغاية قبل سنوات عدة في إحدى محطات مترو الأنفاق في شتاء قارس، استوقفني أحد المشردين طالباً 20 دولاراً، فنهرته ودفعته عن طريقي، لكنه فتح البالطو الذي يلبسه ليريني بندقية متوسطة الحجم، وقال « هيه برو، هل ستعطي الـ 20 دولاراً أم لا؟ »، أخرجت محفظتي وأعطيته المبلغ، فشكرني وقال باسماً « آمل أن أراك مرة أخرى، برو ». أجبته « لا اعتقد، بروذر ».

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر