أقول لكم

محمد يوسف

صفحة تطوى، وصفحة جديدة تفتح، سجلات التاريخ لا تنفد، فمادامت القلوب تنبض، والعيون ترى، والآذان تسمع، فهناك من يدوّن كل صغيرة وكبيرة، والعاقل - فقط العاقل - هو من يقرأ التاريخ جيداً، ويتعلم منه، فهو خير أستاذ ومعلم، بين ثناياه تقع الحكمة، وفي حواشيه يتناثر الجهل، وما بينهما كثير.

لا أدري كيف أصبحت الأمور في ليبيا عندما تقرأون هذا المقال، فقد كتبته في وقت مبكر من صباح يوم أمس لأنني على سفر، لكن الصورة التى أمامي تكاد تكون واضحة، فهذه صفحة من صفحات التاريخ تطوى، صحيح أنها تؤرخ لأكثر من 40 عاماً، وهي مدة في قياس الزمن طويلة جداً، هي عمر أكثر من جيل، ومع ذلك لا أظنها ستأخذ أكثر من صفحة، وقد يأتي يوم ويكتفى بسطرين أو ثلاثة للإشارة إليها، فالتاريخ يسجل الإنجازات، الأعمال العظيمة، الانتقال إلى الأحسن، والبناء، من يبني أرضه يذكر، ومن يبني لشعبه يذكر، وتتداول اسمه الأجيال ، ويحفر الإسم في صفحات ناصعة البياض ، أما من يكون إنجازه الوحيد أنه كان موجوداً، وأن الظروف ساعدته على أن يجلس أربعة عقود على صدور الناس ويكتم أنفاسهم، ويقودهم إلى الوراء، ويحطم كل آمالهم، فتلك سلبيات توضع في صفحة سوداء لا يلتفت إليها كثيراً.

وعندما أعود بذاكرتي إلى الأول من سبتمبر عام 1969 تتراءى لي صور أشباح، صوت يبشر بفجر جديد، وفرح يعم كل من كانوا قد خرجوا قبل عامين من أسوأ هزيمة، وتعلق بقشة في بحر متلاطم، وتتوالى بعدها الصور، أرى معمر القذافي في الملابس العسكرية، برتبة العقيد، وجسمه الممشوق، يمشي مثل التلميذ خلف الزعيم عبدالناصر الذي يريد أن يتشبه به، ثم نراه يطلب الوحدة، كل يوم في اتجاه، من مصر إلى السودان إلى سورية، إلى تونس، إلى دول المغرب كلها، ثم تتبدل الصورة، نراه يسعى نحو العداء الصارخ، ويدخل حروباً كلامية تصل إلى مواجهات حدودية، ثم يغوص في بحر الأوهام، ويذهب إلى الفلسفة، ويتخلى عن عروبته في لحظة ويذهب إلى إفريقيا، ويصف في نهاية المطاف شعبه بالجرذان، وينتهي الملخص، ملخص 42 عاماً، ونضع في آخره نقطة.

myousef_1@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه

تويتر