أبواب

في حضرة الغياب.. فضيحة

يوسف ضمرة

من المعيب أن يتحول اسم محمود درويش، الشاعر الأبرز والأهم في التاريخ العربي المعاصر، إلى إعلان تجاري مبتذل، لا هدف من ورائه سوى التربح والكسب غير المشروع.. نعم، غير المشروع. فلا يحق لأي كان، ممثلاً أو مخرجاً أو منتجاً أن يتصرف في هذا الرمز العربي والإنساني الكبير وفق هواه، فقط لكي يجني أرباحاً مالية.

ما نراه على الشاشات في رمضان، تحت عنوان « في حضرة الغياب » ليس سوى عبث صبياني بهذا الرمز الكبير. أجل، يجري استغلال اسم محمود درويش بلا حرفية فنية حتى، فلا الإخراج ولا السيناريو ولا التمثيل كلها تمكنت من التقاط شيء، ولو بسيطاً، من شخصية محمود درويش، ومن قيمة درويش، وقيمة شعره وأهميته.

يستسلم الممثل فراس إبراهيم لمسحة الأسى التي تصل إلى الميلودراما في الحلقات التي عرضت، ويبدو أنه لايزال مسكوناً بذلك الدور الجميل الذي لعبه أمام أمل عرفة ذات يوم، ولم يتمكن من التفريق بين محب مريض في ذلك الدور، وبين شاعر صاحب مشروع ثقافي ومعرفي كبير، وصاحب أنفة وكبرياء عز نظيرهما بين الشعراء والكتاب العرب.

يعتقد السيناريست والمخرج والممثل، أن هذه « المسكنة » التي يبدو عليها درويش، فراس إبراهيم، في علاقاته وفي رؤيته للحياة، ستحقق تعاطفاً إنسانياً خارقاً، ولكن محمود درويش ليس كذلك، فلا هو باحث عن هذا التعاطف المجاني، ولا هو يتاجر بحالته الشخصية والصحية كي ينال الرضا من أحد.

من نراه أمامنا لا يمت لمحمود درويش بصلة، ولا يقترب في مفهومه للحياة من مفهوم درويش، ولا يحمل في داخله رؤية درويش الثاقبة والساخرة للحياة، تلك الرؤية التي جعلت من محمود درويش متفرداً في قدرته على صياغة الحياة، كما يراها هو، لا كما نعرفها نحن.

المشكلة هنا، هي أننا أمام عمل درامي نمطي، بينما لم يكن درويش شخصية نمطية على الإطلاق، بل كان شخصية نموذجية عالية، متفرداً وذاهباً وحده في تشكيل الحياة كما يرى أو يحب أو يعتقد، ولهذا كان في شخصيته ذلك الغموض الساحر والمميز، الذي انعكس في قصائده كلها، وفي تفاصيل حياته حتى الموت. فهو حتى في اختياره الولايات المتحدة لإجراء عمليته الأخيرة في القلب، كان يعرف ماذا يفعل، وكان يتصرف منطلقاً من كبرياء الشاعر العظيم الذي لا يبحث عن شفقة أو عطف من هنا أو هناك، لكن المسلسل هبط بمحمود درويش إلى الدرك الأسفل من الرداءة الفنية، وذهب إلى أقصى حالات التشويه.

ثمة تسرع واضح في الكتابة والتحضير، وكأن رحيل درويش كان صفقة تجارية مفاجئة، وعلى التجار أن يحصلوا عليها بالسرعة الممكنة، فمسلسل كهذا، كان يلزمه هيئة استشارية من معارف درويش؛ أصدقائه وزملائه وناقديه وذويه ورفاقه مذ كان في فلسطين قبل خروجه الأخير. وشاعر كمحمود درويش، معروف لدى الكثيرين في سورية ولبنان وفلسطين والأردن ومصر وحتى فرنسا، وليست ثمة طرق مقفلة أمام صانعي المسلسل، لكي يتعرفوا إلى شخصيته الحقيقية، ولكي يفهموا، ولو جزئياً، بعض ملامح جوهر درويش، لكنهم أبوا إلا أن يحولوه إلى بطل هندي، ولم ينقصه سوى توأمه الضائع، الذي يظهر عادة في نهاية الفيلم، ومن يدري، فقد يحدث هذا أيضاً في نهاية المسلسل، وتكتمل الفضيحة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر