أبواب

للكلاب النباح نفسه

قيس الزبيدي

ماذا كان «العربي» يفعل قديما عندما يتيه ليلاً ويضل طريقه؟ وما وسيلته ليهتدي، مهما كان الثمن، إلى قومه ويسترجع ذاته؟ يرجع عبدالفتاح كيليطو في خاتمة كتابه الساحر «الكتابة والتناسخ» إلى كتاب «الحيوان» للجاحظ، ويستمد منه حكاية طريفة، يحاول أن يؤولها بطريقة مبتكرة، كعادته، ولنرويها نحن اليوم للقارئ بطريقة مختلفة، علّه يستخرج منها مغزاها الراهن، كما يشتهي ويريد؟

رجل ضل ليلاً في القفر ويحاول أن يهتدي إلى قومه، لعلّه عمل نهاراً على وضع أحجار ومعالم عند مروره ولعلّه ترك آثار قدميه على الأرض التي وطأها، لكن عيناه لا ترى في سواد الليل لا الأحجار ولا آثار قدميه، لأنهما ليسا عيني هر. سيلجأ إلى طريقة لا تخطر ببال أحد: يأخذ بالعواء والنباح، علّ كلاباً بالجوار تستجيب لنباحه. فالنباح دلالة على وجود ديار وناس يقطنونها.. ولكي يهتدي إلى طريقه، لا مفر له من النباح. أما الكلاب التي ستستجيب لنباحه، فإنها ستظن أن من يخاطبها بلغتها هو كلب منها، لهذا عليه أن يحول نفسه إلى كلب، ليهتدي إلى قومه ويسترجع إنسانيته؟

كائن بشري يتكالب في سواد الليل، يتخلى عن لسانه ويتخذ لغة الكلاب ليهتدي إلى بني قومه ويتظاهر، مؤقتا، بأنه كلب، وهو بهذه اللعبة المخادعة يكون بحاجة إلى النباح.

فرضية أولى: ليس هناك ما يضمن وجود كلاب على مقربة من قومه، فعند الليل تصدر الكلاب جميعا النباح نفسه، وقد تكون الكلاب التي قد تستجيب لندائه، أناساً ضالين أيضا يستنبحون مثله، علّهم يجدون كلباً يرشدهم إلى قومهم. ستكون الخديعة مزدوجة، ففي الجهتين هناك اعتقاد أن الكلاب حقيقية، بينما في الجهتين ليس هناك سوى كلاب مُزيفة، وعندما تحين المواجهة تصيب الجميع خيبة كبرى.

فرضية ثانية: لنترك صاحبنا المستنبح يتجه صوب أهله، حيث تنتظره مفاجأة عظمى لأنه سيجد أن قومه يستمرون بالنباح عوضاً عن تكلم لغتهم لأنهم عبروا بصوت الكلاب عن رغبتهم في استرجاع «الابن الضال» وأخذوا في النباح ليجعلوه يستدل على مكانهم، وحينما يفعل ويقترب منهم يأخذ بني قومه يرحبون به بلغة ضائعة مزيفة، لا يصدر منها سوى صوت نباح الكلاب.

فرضية ثالثة: يرى صاحبنا نيران قوم غرباء ولنتصور أن هؤلاء الغرباء ينطقون لغة غير لغته وأن المستنبح الذي تقوده خطاه إليهم وهو يتوقف عن تقليد الكلاب ليستعيد لغته، سيكتشف أنهم لا يتكلمونها وأنهم حتى لا ينظرون إليه على أنه كلب، بل على أنه قرد لا يقلد نباح الكلاب وإنما نباح البشر.

فرضية أخيرة: إذا كان صاحبنا الليلي الضال سينبح في مكان أخلته الكلاب، فإنه سيظل ينبح طوال الليل بلا مجيب، وحينما يبلغ، مع إشراقة الفجر، نبع ماء صغير، يسرع منهكاً وينحني للشرب. حينئذ تتراءى له على سطح الماء صور «له» غير واضحة. فأية صورة سيرى؟ صورة كلب؟ صورة قرد؟ أم صورته المعهودة؟ قد يرى كل هذه الصور المتمازجة، لكنه أثناء ما يمد يده ليمسك بأية واحدة منها، تتسارع مياه النبع الصغير أكثر فأكثر وتبدأ الصور بالذوبان وتتلاشى في مجرى الماء المتسارع.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر