أبواب

أمراء أم سلاطين؟

قيس الزبيدي

لم يكن مكيافيللي صاحب نظريات، بل كان سياسياً، وجد مُثله العليا في تاريخ الرومان، وقرأ الترجمات اللاتينية لمختلف الكتب الإغريقية القديمة واشترك في الحياة السياسية المضطربة في مدينة فلورنسا، وأضحى من واضعي السياسة ومخططيها. ومع أنه كان يميل إلى الحكم الجمهوري الروماني ويؤمن بنظام الحكم الاستبدادي، لكنه اعتبر الحكم الديمقراطي أصلح الأنظمة، شرط أن يكون الشعب مستنيراً، والدولة مستقرة الأوضاع. وحينما دوّن كتابه «الأمير» كان هدفه أن يهديه إلى الأمير لورنزو العظيم، الذي كان أديباً وشاعراً، شمل برعايته الفنانين والأدباء وأهل العلم، واعتبر عهده العصر الذهبي للنهضة الإيطالية. والشيء الأكيد أن الكتاب وزّع على شكل مخطوطة ونسخ مرات عدة، لكنه لم يطبع إلا بعد خمس سنوات من وفاة مكيافيللي عام .1532 ولعل من سوء حظه أن هذا الكتاب بالذات طغى على جميع مؤلفاته وأضحى الوحيد الذي تستند إليه سمعته، بحيث اعتبرته الكنيسة عملاً من أعمال الشيطان، وأصبحت «المكيافيللية» قرينة للخبث والدهاء والفساد في السلوك والأخلاق. ولم يسترجع مكيافيللي اعتباره التام، إلا منذ القرن الـ،18 حينما بدأ روسو يثني عليه، وفيخته يحلله، وهيغل يشهد له بالعبقرية، وهناك من عده رسولاً للوحدة الإيطالية.

وضع مكيافيللي في الكتاب خبرته السياسية وإلمامه بالطبقات الحاكمة والدهاء السياسي، وكشف فيه محركات الأحداث التاريخية وخفاياها، علّه يساعد «الأمير» في معرفة السيطرة على المستقبل والحفاظ على قوة الدولة، وحقها في استخدام كل «الوسائل» التي تحقق قوتها وتوسيع سلطانها، من دون إرجاع أي من هذه الوسائل إلى المقاييس الأخلاقية. كما بين له مذهب التعارض المحتوم بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة والفرد، ليكون لورنزو العظيم «أميراً يستطيع التعرف بدقة إلى طبيعة الشعب، ويكون فرداً من أبناء الشعب ليتعرف إلى طبيعة الأمراء».

ورغم مرور نحو 500 عام، إلا أن كتاب «الأمير» مازال الموجه الملهم لرجال الدولة في مختلف أنحاء العالم، احتاج إليه في الماضي كل من نشد القوة السياسية واستخدمه ملوك ووزراء، اختلفت طبائعهم وأهدافهم، منهم فريدريك ملك بروسيا، وبسمارك وكليمنصو، واتسعت الحلقة في القرن الـ20 فشملت من ثاروا على أنظمة الحكم القديمة، فاختاره موسوليني موضوعاً لأطروحته في الدكتوراه، ووضعه هتلر على مقربة من سريره، ليقرأ فيه كل ليلة قبل النوم، ويُقال أيضاً، إن لينين وستالين تتلمذا على يد مؤلفه!

اليوم كما يبدو تصبح قراءة هذا الكتاب الإشكالي، مسألة ملحة، خصوصاً أن الاهتمام يتزايد به كل يوم، كما يمكن لقراءته العميقة أن تلقي الضوء على مشكلات بعض الأمراء «المحدثين»، ولبرما قد تساعد بعضهم على حلها.

يكتب مكيافيللي «لكني أريد أن أقول في الختام، إن من الضروري لكل أمير- يفضل مترجم الكتاب خيري حماد أن يسميه السلطان- أن يكسب صداقة شعبه، وإلا فإنه لن يجد أي ملجأ له في أوقات الشدة والضائقة، وإن خير قلعة يقيمها الأمير تكون في أفئدة الشعب، إذ على الرغم من إقامته للقلاع، فليس في وسعها حمايته، إذا كان الشعب يكرهه. وعندما يثور الشعب ضده، فلن يعدم أنصاراً من «الأجانب» يسارعون إلى تقديم العون له».

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر