كل جمعة

دوام كامل

باسل رفايعة

تقع الجمعة في منتصف هذا الشهر الحار. عرب كثيرون يخرجون اليوم إلى الشوارع، بحثاً عن شمس جديدة. كانوا يودّون لو يستطيعون اصطحاب الأطفال إلى غابات وشواطئ، وإجازات للمرح والضحك، والاسترخاء. لكنّ الجريمة في دوام كامل، ولابد من هتاف يشرح لها معنى الرأفة بالأجساد الطرية، وبالحناجر، وبالعيون التي لم تر سوى شجيرات صغيرة في بلدة، وسوى بيوت وأزقة فقيرة في مدن تتكسر تحت جوع قديم.

أعني الجريمة، بكل وضوحها وشراستها. الجريمة المصورة بالألوان والأصوات. تلك التي لا تقبل التكذيب، ولا يمكن وضع حد لها بإنكارها في الإعلام الرسمي. الجريمة التي تصحو في كامل نشاطها يوم الجمعة، وتنتشر في كل مكان يتململ تحت القيود. وتظن أنها تختبئ خلف ألف حاجز، وألف معنى فيما هي في عراء ساطع كفضيحة.

غالباً، ما تبحث الجريمة عن ساتر لفظاعتها. يؤكد القاتل أنه يقتل الناس من أجل أن يكون الأمن مستتباً، ومن أجل هيبته، وإلا ضاعت هيبة المكان، لأنه هو المكان، فيما البشر طارئون وعابرون. ويقتل لأنه يضجر من رؤية الحشود في شارع. الحشود تستنزف الهواء الذي يتنفسه، وتثير الازدحام وضيق النفس.

تختبئ الجريمة خلف مقدس أيضاً، أو وطن، كأن يقول القاتل: أنا أقتل الأطفال والنساء، وأشوّه جثث الضحايا من أجل فلسطين، ويجد جوقة من المصدقين الدامعين، فيشدد على أن الطريق إلى فلسطين يمر عبر قمع المطالبين بالحرية، وبالحياة بأقلّ شروطها الإنسانية. تُمعن الجوقة في التصديق، فيحلو له الاختباء خلف فلسطين مجدداً، فيؤكد مقدار ألمه وحسرته على الضحايا من الأبرياء، وبالغ تعازيه لعائلاتهم، ولكن ما في اليد أي حيلة، فلابدّ أن يموتوا رمياً برصاص القناصة من أجل تحرير فلسطين، ولابد أن تُقتلع الأظافر، وتُسمل العيون، وتُقطع الأطراف، من أجل تحرير فلسطين، فليس سواه القادر على هذه المهمة الشجاعة، فيما العالم كله متواطئ ضد فلسطين وقضيتها.

في هذه الجمعة، سيذهب القاتل إلى مهمته الرسمية، وسيحرص على أن تكون جعبته مملوءة بالرصاص الحارق الخارق، ولن يأبه لأي تسويغ، فتلك مهمة التلفزيون الرسمي الذي يتهيأ بكل ما لديه من خيبة، وممثلين فاشلين، ليبثّ قبل منتصف النهار صوراً عن المسابح والحدائق والأسواق، ثم تحين النشرة التي لابد منها، وقد انتهت صلاة الجمعة، فيقسم في بدايتها بأن الجريمة لم تحدث، ينكرها بكل ما لديه من كذب بدائي، كأن يقول إن الصورة التي بثتها الفضائيات المعادية قديمة، أو من أحداث البوسنة والهرسك، أو من اضطرابات حدثت في العصر الطباشيري على كوكب المريخ.

تنتبه الضحية إلى سلسلة متراصة من القتلة، فتقرر قبل موتها أن تؤرخ دمها، وتعيش في الصورة على الأقل. ترفع الضحية لافتة تكتب عليها اسم القرية أو المدينة، والزمان: الجمعة 15/7/ 2011. تحاول الضحية حتى آخر الرمق الأخير أن تقاوم طمس الجريمة، لكن القاتل لا يعدم الكذب، فيسارع الإعلام الخائب نفسه إلى البحث عن فاعل. وكلمة السر دائماً في عصابات مسلحة، خارجة على القانون، تظهر فجأة، وتختفي فجأة، كأنها أشباح، تقتل كل من يحلم ببلاد، ويرفع لها عَلَماً ونشيداً. كما لو أن البلاد محض جنازة.

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر