أبواب

مرآة العقل

قيس الزبيدي

إن ما وضعه الله في العالم هو الكلمات المكتوبة عندما فرض آدم على الحيوانات أسماءها الأولى، فهو لم يفعل سوى أن نقرأ هذه العلامات المرئية الصامتة، وقد عهدت الشريعة إلى ألواح مكتوبة لا إلى ذاكرة البشر، والكلمة الحقة يجب العثور عليها في كتاب، وإن المكتوب في الطبيعة على وجه اليقين، وربما أيضاً في معرفة البشر، سبق المنطوق دوماً، والكتابة هي العقل الفعال والمبدأ المذكر للغة، وهي وحدها تملك الحقيقة تماماً كما كان ترتيب الأسماء الأولى يشبه الأشياء التي وضعها الله في خدمة آدم.

يعود فوكو إلى كلود دوريه الذي نبه إلى أن العبرانيين والكنعانيين والسامريين والكلدانيين والسوريين والمصريين يكتبون من اليمين إلى الشمال، متبعين دورة السماء الأولى وحركتها اليومية التي هي تامة الكمال، وتقترب، حسب أرسطو، من الوحدة. أما اليونان والموارنة والأقباط والصرب وكل الأوروبيين فيكتبون من اليسار إلى اليمين، متبعين دورة السماء الثانية وحركتها، وهي مجموعة الكواكب السبعة. أما الهنود والصينيون واليابانيون فيكتبون من الأعلى إلى الأسفل، بينما يكتب المكسيكيون إما من الأسفل إلى الأعلى وإما في خطوط لولبية كالتي ترسمها الشمس بدورتها السنوية على الأبراج.

بهذه الضروب الخمسة للكتابة تم التعبير عن الأسرار والألغاز لتتابع العالم ولشكل الصليب ومجموع كروية السماء والأرض، من هنا يجد فوكو أن اللغات هي مع العالم على علاقة تماثل أكثر مما هي على علاقة معنى، لأن اللغات كانت في شكلها الأول شارة أكيدة وشفافة بشكل مطلق للأشياء بفضل التشابه، لكن حينما أصبحت خاصية المعرفة ليست في الرؤية ولا في البرهان وإنما في التأويل، فإن الكلمات لم تعد تشبه الأشياء التي تسميها مباشرة، وأصبح هناك عمل أكبر لتأويل التأويلات من تأويل الأشياء، كما أن هناك كتباً حول الكتب أكثر من الكتب. ووجدت اللغة نفسها أسيرة الفجوة القائمة بين النص الأصلي وبين لاتناهي نص التأويل: ستكرس العين للرؤية وللرؤية فقط، والأذن للسماع فقط، وستكون مهمة الخطاب «التأويلي» أن يقول ما هو قائم، وأنه لن يكون شيئاً آخر سوى ما يقوله!

يعد كتاب «الكلمات والأشياء» أهم ما كتب ميشيل فوكو، وأفضل شاهد على قدرة العقل على اكتشاف أنظمته المعرفية ومراجعتها للمرة الأولى في تاريخ الفلسفة. ليس أقدم ولا أثبت إشكالية طرحت ذاتها على المعرفة الإنسانية من الإنسان، وهو حسب فوكو، اختراع تظهر حفريات المعرفة - الاركيولوجيا - فكرنا بسهولة حداثة عهده، وربما لا تحقق نهاية خطابه إلا إذا رحنا نستعمل «مرآة العقل» في عملية تأملنا لذواتنا، ويمكن القول إن فوكو وهو يجوب مجالات المعرفة والمجتمع والأخلاق بهدف وضع تاريخ للحقيقة، يكشف أن كل مرحلة تاريخية تمتلك أنظمة معرفية وشروطاً خاصة للحقيقة، وأن الحقيقة بنيت قطعة قطعة من التاريخ، وبالتالي هي لا توجد في عقول الفلاسفة.

ويتأتى على الفرد ألا يتوهم أن هناك واقعاً لا سلطة تواجهه في كل مكان، وأن مواجهة السلطة والتحرر الفعلي منها لا يتمان إلا عندما يتأتى على الفرد أن يُخضع القوة من أجل امتلاكها، ويجعل من قوته قوة تؤسس الحقيقة.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر