كل جمعة

آلات تتقاعد..

باسل رفايعة

سيتقاعد مكوك الفضاء الأميركي الشهير «أتلانتيس». مهمته الأخيرة اليوم، ثم يستقر في المتاحف، بعدما قدم للعلم خدمات عظيمة طوال 30 عاماً، وهذا منطق الحياة، فلابد من التغيير، والأمر هنا يتعلق بوسائل النقل إلى الفضاء، بحثاً عن الفاعلية أو الكلفة. وربما لن تمرّ شهور كثيرة حتى يكون بإمكان أي أميركي أو زائر مشاهدة المكوك في المتحف والتقاط الصور إلى جانبه، أو في مقصورته، مثلما بإمكان أي أميركي أن يُصادف رئيساً سابقاً للولايات المتحدة، في أي مطعم للوجبات السريعة، ويُلقي عليه التحية، ويمضي إلى حال سبيله.

الآلات العظيمة تتقاعد، وتنتهي في المتاحف، والزعماء لدى الأمم ذات الشأن، يتقاعدون، وينتهون في الحياة بأسواقها ومطاعمها بشراً عاديين، لا يتوهمون التنزيه والخلود. لا قدسية ولا قداسة، ولا حراسة، يأتون بصناديق الاقتراع، ويذهبون بعد أن تنتهي مددهم الدستورية، ثم تستمر الحياة، وتشرق الشمس في الصباح التالي على البلاد بزعيمها الجديد الذي تورثه الديمقراطية دوراً محدداً، وتدفع له راتباً محدداً، ولا تُتعب بالها في البحث عن أوصاف أسطورية له، مثل «القائد التاريخي، والضرورة..»، وما إلى ذلك من خرافات الأمم البدائية.

المقال ليس في مقام المكوك «أتلانتيس»، ختام الكلام فيه منقول عن رئيس وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) تشارلز بولدون، وقد قال «سنطوي صفحة من التاريخ، لكن الزعامة الأميركية في الفضاء ستستمر». مقام المقال في الزمان، وهو حاصل جمع الليل والنهار، وفي التغيير، وهو حاصل جمع الزمان والمكان، وما بينهما من بشر، وما بين البشر من لغة، وما في كل لغة من حضارة، ترفع قدر الإنسان إلى أعلى قيمة، أو من بدائية تحطّ من شأنه، وتنزع منه حق الحياة، وحق الكلام، وحق النظر إلى المستقبل.

المكوك تقاعد بعد 30 عاماً، وهو من نتاج أمة تؤمن بالتقاعد، وبأن البشر ليسوا أساطير، ولا أنصاف آلهة، فيما «القائد الأممي الإفريقي الشعبي الديمقراطي» معمر القذافي، يرى أن لا أحد يصلح لحكم ليبيا سواه، أو سوى ابنه، وهو منذ أكثر من 40 عاماً يهيم في متاهته، وليس مسموحاً لأحد بأن ينافسه في هذا الخلود الحجري، وحينما طالبه الذين تحملوا جنونه عقوداً بقليل من الحريات والطرق والمستشفيات وجد أن الأمر لا يُحتمل، ولابدّ من طائرات ودبابات، فقد يبقى آلاف، أو حتى مئات من الليبيين ليحكمهم، وهذا يكفيه، ليرفع قبضته بخطاب مجلجل.

الثوار الليبيون يحققون انتصارات لافتة في الأيام الأخيرة، وقد باتوا على مقربة من طرابلس، والعون الأجنبي المدعوم بتدخل عسكري مباشر يسهم كثيراً في تقاعد إجباري للقذافي وعائلته، إما في سجن، أو منفى، أو حتى قبر، فقد فعل كل ما في وسعه لينتهي هذه النهاية، وربما كان يستحق أسوأ منها.

ثمة أكثر من قذافي، يقتلون الناس في الشوارع. لا يكتفون بالموت، لا يُلبي وحشيتهم كما ينبغي. ينتزعون عين الضحية، ولسانها، وحنجرتها. ثمة أكثر من «زعيم تاريخي.. وضرورة».. ولا حلّ لهؤلاء سوى أن تقرر الأمم التي تؤمن بتقاعد البشر والآلات أن نهايتهم حانت، من أجل أن تكون لشعوبهم بداية، وشمس جديدة.

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر