أبواب

آلة كاتبة + فيلم

قيس الزبيدي

في بداية كل عام جديد يفتح المخرج محمد ملص مفكرة جديدة، ليبدأ كتابة يومياته يوماً بيوم، أينما حل أو رحل، وهي عادة ربما أخذ يمارسها منذ سنوات دراسته في موسكو، ومن الطريف أن تعترض زوجته انتصار، وهي ذات ميكروسكوب ذاكرة لا تحب اليوميات، «الهم الأول هو أن يعيش المرء الأشياء لا أن يكتب عنها»، ولا تجدها سوى مادة مشعة، تكشف كل الخبايا، بينما ملص يعترض «وماذا نريد غير المادة المشعة التي تكشف الخبايا..؟».

في كتاب «مذاق الملح/ دار رفوف للنشر/ دمشق 2011»، يختار ملص بعض يومياته «المشعة» التي سبق له أن دونها في فترات زمنية مختلفة، لكنها لم تنشر وفقاً لترتيب زمن كتابتها، ولعل أكثرها حميمية هي اليوميات من «مفكرة موسكو 1968 - 1974»، التي ترسم «بورتريه» خاصاً للروائي صنع الله إبراهيم.

بعد خمس سنوات (1959 إلى 1964) قضاها صنع الله في السجون المصرية كشيوعي، يداه مقيدتان بسلسلة واحدة مع قائد الحزب شهدي عطية الشافعي، وهما يُنقلان من سجون «القلعة» إلى «الواحات» إلى «أبوزعبل». ويعيش صنع الله بعد تلك السنوات في برلين الشرقية ليعمل في وكالة الصحافة الألمانية، ومن ثم يسافر إلى موسكو، ليلتحق بمنحة لدراسة السينما، لتكون «السينما» في نسيج تجربته الأدبية كما كان أستاذه المخرج تلانكين يأمل.

في سنته الأولى يعيش صنع الله في غرفة مشتركة مع آخرين في بيت الطلبة، ويميّز وجوده صوت طرقات تصدر عن آلته الكاتبة وهي تصل مبكرة ومتأخرة إلى أسماع طالب السينما محمد ملص، الذي كان يعيش في غرفة مجاورة. وحينما تعرف ملص إلى صنع الله وهو يسمع دائماً صوت طرقات الآلة الكاتبة، يدون في يومياته «ألا تبدو الحياة صعبة وقاسية حين يتحول العالم فيها إلى مجموعة من الأشياء التي يجب معرفتها ورصدها وتسجيلها؟».

شارك صنع الله ملص في كتابة سيناريو فيلم تخرجه «كل شيء على ما يرام سيدي الضابط!»، ويلعب فيه دور «قارئ أخبار الصحف التي تدخل السجن مُهربة»: «لمست بقوة كم تستهوي صنع الله فكرة الكشف عن دور الأخبار السياسية في حياة السجناء».

بدأ صنع الله بكتابة مفكرة عن السجن، تسبق كتابة السيناريو، الذي جسد الفيلم فكرته المجازية المُميزة، التي ابتكرت مما يسمى المونتاج اللاتزامني: في الوقت الذي تصل أخبار انتصارات حرب يونيو إلى السجناء من خلال الصحف المُهربة، التي تصل متأخرة إلى السجن، تكون الحرب قد انتهت إلى هزيمة. وأثناء ما يعيش السجناء حالة النصر، تعيش البلاد التي دخلوا السجن من أجلها، حالة الهزيمة.

كان صنع الله: «ينفث في هواء الغرفة زفير الكتابة الروائية المجرثم». ومنذ تلك «اللحظة» غرقت في التفكير الفعلي بكتابة رواية القنيطرة «إعلانات عن مدينة».

في موسكو ينجز ملص روايته عن ملامح مونتاج ماضٍ - حاضر لذاكرة تحمل مذاق السؤال ومرارة الجواب، وسيقتبس عنها سيناريو فيلمه الروائي الثاني «الليل/1992»، وفي موسكو ينجز صنع الله معمار بناء روايته «نجمة أغسطس/1974»، عن السد العالي، عبر مونتاج التوازي مع إبداع مايكل أنجلو لتماثيله العظيمة.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر