أبواب

جزيرة مهجورة أم منفى مسكون؟

قيس الزبيدي

تعرف المخرج المسرحي والسينمائي الكبير جوزيف لوزي شخصياً إلى برتولت بريشت في نيويورك، وقطن معه في الشقة نفسها شهوراً طويلة في عام ،1946 وكانت حكمة هيغل « الحقيقة ملموسة » ترافق دائماً بريشت في منفاه، ويضعها على مكتبه، وغالباً ما كان يقول إنه من غير الكافي معرفة ما نريد قوله، بل علينا أن نمتلك الحيلة والدهاء لقوله. ويقترح لوزي استبدال كلمة حيلة أو دهاء بموهبة أو عقل أو فن.

حينما استدعي بريشت إلى واشنطن ليمثل أمام لجنة النشاط المعادي لأميركا رافقه لوزي، وكانا يتناقشان طوال الرحلة حول الاستجواب المخيف الذي ينتظر بريشت في اليوم الثاني. وفي يوم آخر رافقه أيضاً إلى طائرته التي أقلته هرباً إلى سويسرا. ولم يلتقيا بعد هذا الوداع.

وفي وقت متأخر كان لوزي من بين الأشخاص الـ،10 الذين شملتهم القائمة السوداء، والذين منعوا من العمل ومن حماية القانون، بعد أن رفض كل منهم الإدلاء بشهاداته أمام لجنة تحقيق النشاط المعادي لأميركا المكارثية.

كان شعار لوزي « يتوجب على الذين يعتقدون أن الفن ليس له وظيفة اجتماعية الذهاب إلى جزيرة مهجورة نموذجية، ولأنه لم يذهب إلى تلك الجزيرة، فقد اضطر إلى الذهاب للمنفى ».

كتبت دفاتر السينما الفرنسية في عام 1963 « لوزي أولاً إنجليزي في أميركا، وأميركي في إنجلترا، وهو الآن أوروبي 100٪ ». وعقّب لوزي في عام 1964: « أعيش في أوروبا بشكل دائم بعد أن قضيت في إنجلترا 12 عاماً متتالية، أخرجت خلالها ضعف الأفلام التي أخرجتها خلال السنين الخمس التي عشتها في هوليوود ». وأضاف في عام 1977 « خلال 26 عاماً قضيتها في الغربة، أشعر بأنني أميركي، لكنني لم أجنِ من هذا الوفاء أي فائدة، بل على العكس لم أحصد سوى المتاعب، بينما قدمت لي إنجلترا وفرنسا وأوروبا أكثر من وطني ». حصل لوزي على ثلاث جوائز أوسكار فرنسية، « سيزار » و« السعفة الذهبية » في « كان »، وحصل فيلم « الخادم/1963 » سيناريو هارولد بينتر، في أميركا على جائزة أفضل فيلم أجنبي، أما بريشت الذي عانى في المنفى: « كنا نغيّر البلاد أكثر من الأحذية »، وصمد حتى النهاية ليستطيع أن ينجح أولاً في تأسيس فرقته الشهيرة « برليننر إنسامبل » في برلين الشرقية، وينشر مسرحه الملحمي الجديد الأكثر روعة في العالم.

بعد وفاة بريشت المبكرة يكتب لوزي « نظرة المعلم الفن السابع (80) دمشق ـ 2005 »: « أنظر إلى قناع موت بريشت الموضوع على مكتبي بسخرية، وأظنه الأقل موتاً بين الأموات الذين عرفتهم، فقناعه يشبهه عندما كان حيّاً. كان أكثر الناس معرفة بالمسرح، وأكثر احترافاً من بين المحترفين. وتعلمُنا مسرحياته، مجتمعة، ذروة روح المسرح الذي يقوم بتجريد الواقع من كل ما يُزينه، ليبتدعه من جديد. ويكتب لوزي عن التأثيرات التي مارسها بريشت في علاقته المباشرة بالسينما: « تجريد الواقع (و) تصعيد الواقع (و) إعادة بناء الواقع بدقة، عن طريق انتقاء رموزه، لإظهار قيمته التامة، وتزويد كل عين منفردة برؤية أوسع ».

كانت رغبة الحياة لدى بريشت هدفه من النشاط الفني، لهذا دوّن في أورغانونه « نعرف أن للبرابرة فنهم. لنصنع نحن فناً آخر ».

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر