كل جمعة
« فكّرْ بغيركَ »..
«وأنتَ تعودُ إلى البيتِ .. بيتكَ، فكّرْ بغيركَ، ألا تنسَ شعبَ الخيام».
مات محمود درويش في صيف ،2008 قبل أن تنام شعوب عربية من غير الفلسطينيين في خيام على حدود بلادهم، وقبل أن نرى أطفالاً ونساءً ورجالاً يسيرون على الصخور والأشواك، ويحاذرون عقارب الصيف وأفاعيه، هرباً من موت محقق، يهدر تحت المجنزرات والدبابات والنيران المصبوبة، كما لو أن البشر لا يستحقون سوى حياة في الصمت والجوع، سرعان ما تنتهي حين يتكلمون، أو ينشدون الخبز.
صورة « شعب الخيام » التقطها درويش إبان نكبة فلسطين ،1948 التي عاشها طفلاً مع أهله في الجليل، وظلّت حية، وربما كان يظنها قدَرَاً فلسطينياً خالصاً، لا يتكرر في بلاد عربية أخرى، إلا إذا دهمتها عصابات صهيونية، مثل « ارجون، وشتيرين والهاجاناه ».
وقف الرجل العربي حاملاً طفليه أمام الكاميرا، وهو يبحث عن ماء وطعام لهما في مخيم، ويسأل عن أي جريمة اقترفها، ليُهجّر من بيته، ويعيش أياماً في الذل والمهانة، بحثاً عن زاد ومأوى، وحين أجهش بدموع غزيرة، تطلع إلى السماء يبحث عن دعاء لائق، بمن بدّد حياته وأمنه، ثم تحركت الكاميرا إلى سياج كبير، بدت البلاد من ورائه سجناً غارقاً في الظلام، حيث وقف المذيع يشرح للمشاهدين أن آلافاً من اللاجئين المقبلين ينتظرهم مصير مجهول، إذا لم تتحرك المنظمات الإنسانية الدولية، لأن العبء يتزايد على دول الإيواء.
نشرة الأخبار لا تنتهي، لأن الموت منهمك في مزيد من الضحايا الذين خرجوا إلى الشوارع يطلبون الكلام كل جمعة. الموت بنسخته العربية أكثر نشاطاً من الصحافيين والمراسلين التلفزيونيّين، وأكثر واقعية من الرسامين والشعراء، لا يريد للمحطات أن تترك الجمعة يوماً للبرامج الوثائقية والمسلسلات التاريخية، فالملل انتهى في هذا النهار الذي بات منذوراً للصدمة والدموع والدعاء على الظالمين، منذ أن أصبحت الشعوب العربية تريد حقوقها، دون تأخير، وإن يكن الثمن تعذيباً، ومقابر جماعية، وموجات نزوح وتهجير.
نشرة الأخبار مستمرة، وعلى السادة المشاهدين أن يلاحظوا أن هذه ليست مخيمات فلسطينية ترعاها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين « الأونروا ». هذه مخيمات عربية جديدة، بلا وكالة. وهؤلاء الأطفال الذين يجوبون حفاةً دروب المخيم الترابية الوعرة هم الجيل العربي الجديد من اللاجئين، ولا مفاتيح حديدية كبيرة هذه المرة، يهزها الأجداد في وجه النسيان، فالدبابات الحديثة لم تدع للآباء والأمهات دقائق يحتفظون فيها بالمفاتيح الصغيرة للبيوت، لم تدعهم يضعون خشباً تحت أكياس الطحين، ومصائد للفئران، تركوا البيوت مفتوحة تحت حراسة الحظ والمصادفة.
نشرة الأخبار لم تعد تحتمل الأخبار. المذيعة تعتذر للمشاهدين عن فظاعة الصور، وتؤكد لهم أنها فوق احتمال البشر. لقطات قليلة وعابرة لطفل خرج مع أبيه في تظاهرة، فعاد أشلاء في تابوت، وكل ما تبقى من سجائر مطفأة في جسده، وحروق في وجهه، وكدمات وكسور يتكفل بها موقع « يوتيوب ».
النشرة لا تُحتمل، لكننا في بيوتنا، ونملكُ كثيراً من أمنيات الآخرين، وحين نُفكّر في غيرنا، وفي « شعب الخيام » لا نجد إلا عزاءً درويشياً يهتفُ عميقاً فينا: وأنت تُفكّرُ بالآخرين البعيدين.. فكّرْ بنفسكَ. قل: ليتني شمعة في الظلامْ.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .