أبواب

المختبر الإبداعي

قيس الزبيدي

منذ فترة طويلة تحول الناقد عدنان مدانات من الكتابة عن الأفلام إلى الكتابة حول فن السينما، بدافع أن يقيم علاقة ثقافية مع القارئ، بعيداً عن النسق الأكاديمي، ليترك له مجال الحكم على الأفلام التي يشاهدها بنفسه. ويبدو من كتابه الجديد، الذي أخذ طريقه إلى المطبعة، أنه يذهب في طريق جديد آخر، يتعرف فيه إلى نماذج فيلمية عربية وعالمية تاريخية ومعاصرة، يعرّف بكل نموذج منها ويضعه تحت مجهر ما يسميه « المختبر الإبداعي » ويُخضع فيه في الغالب مشهداً أو مقطعاً منه إلى تحليل مُميّز، ليكشف فيه فنية حله الإبداعي بهدف اكتشاف امكانات تعبيرية فنية إبداعية، يمكن تلمّس بعضها في مجال السينما التسجيلية، إضافة إلى أنه يضمن كتابه صوراً منتقاة من الأفلام المختارة، توضح الفكرة المستنبطة من كل مشهد، يؤوله الناقد.

في العام 1982 خطرت ببال الناقد فكرة إعداد « كتاب مقابلات » مع مخرجين عرب يستكشف عبرها ما أطلق عليه « أسرار المختبر الإبداعي » الموجود داخل دماغ المخرج، وذلك في محاولة منه للغوص في أسرار مختبر كل واحد منهم. وبما أن موضوع كتابه الجديد ينحصر في الكشف عن بعض أسرار السينما التسجيلية الإبداعية، فإنه ينشر فقط مقابلة لميشيل خليفي، كونها المقابلة الوحيدة، التي أجراها حينئذ، حول تجربة مخرج تسجيلي مبدع أنجز فيلم « الذاكرة الخصبة ».

يجد الناقد في فيلم « مازن والنملة » مشهداً إبداعياً يعده فيلماً بحد ذاته، يستغرق نحو ثلاث دقائق، تتداخل فيه لقطات للطفل مازن وهو يتأمل جموع النمل التي صادفته في طريقه إلى المدرسة، ليتوقف أمام مشهد نملة تحاول أن تتسلق قمة مرتفع ترابي، هو جبل شاهق بالنسبة لها، وهي تحمل حبة قمح حجمها أضعاف حجمها. تبدأ النملة في تسلق الجبل، لكنها سرعان ما تهوي إلى الأرض، تعاود النملة المحاولة وتتمكن من الارتقاء مسافة أبعد، غير أنها تهوي من جديد، لا تيأس، بل تلتقط حبة القمح للمرة الثالثة ثم تصعد، وتصل إلى أعلى القمة تقريباً، غير أنها تعود وتتدحرج إلى الأسفل، لكنها تستمر من جديد، إلى أن يقرر الطفل أن يحملها بنفسه ويوصلها مع حبة القمح إلى الحفرة التي تؤدي إلى بيت النمل.

كيف تتحول ظاهرة ما خاصة يومية، وإلى حد ما اعتيادية ومألوفة، إلى ظاهرة درامية ذات مغزى اجتماعي وحتى فلسفي إنساني عام، تٌذكّر حتى بأسطورة سيزيف الذي عاقبته الآلهة، وحكمت عليه أن يصعد إلى قمة الجبل وهو يحمل صخرة كبيرة، تسقط منه كل مرة إلى أسفل الجبل، كما أنها تكشف إلى أي مدى يمكن للفيلم التسجيلي أن يغوص في مادة الواقع ويكشف غناه التعبيري وإيقاعه الحسي وقيمه الجمالية. لا يبدو المهم هنا من « يختار » ما يحدث في الواقع ويسجله فنياً، إنما من يُمكنه أيضاً أن « يؤوله » إبداعياً.

لا تكون السينما فناً إلا عندما تكون الكاميرا في عين شاعر، ويبدو لي أن هذا الرأي، حسب الناقد ينطبق بقوة على السينما التسجيلية.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر