أبواب

الجميل في فن النغم

قيس الزبيدي

الغابة تعني الظلال، فهل يمكن تسمية الظلال غابة؟

يبدو هذا التساؤل بمنزلة مدخل لفهم النغم عند عالم الموسيقار النمساوي ادوارد هانسليك (1825 ــ 1904) الذي نظر إلى الموسيقى لغةً سمعيةً وليست كلامية، على الرغم من أننا نفهمها من دون أن يكون في مقدورنا ترجمتها إلى كلمات. وفي مقدمته يرى مترجم الكتاب الدكتور غزوان الزركلي، أن المؤلف وضع أسساً نظرية متينة لم تتقوض ولم تهتز حتى يومنا، وهي أسس تدافع عن الموسيقى الآلية التي لا تدخل في بنائها الكلمة الأدبية التي، تجعل الموسيقى سهلة التأويل والتناول وتصبح بذلك أقل تجريداً.

تقترب الفنون بعضها من بعض في نقاط عديدة، لكن يبتعد أيضاً كل فن منها عن الآخر في شروط ممارسته وفي تناول موضوعاته، فكل فن يُفهم من خلال أدواته الخاصة وتتحول فيه رؤية الفنان الخيالية إلى ظاهرة خارجية. وتتميّز الموسيقى بأنها رؤية صوتية وليست مفاهيمية، تحتاج إلى من يترجمها أولاً إلى نغمة.

يورد المؤلف مقتطفات من أفكار جماليين قدماء وجُدد في تعريف الموسيقى، وفي العلاقة بين الموسيقى والعاطفة: الموسيقى تعبير عن أحاسيس محددة عن طريق أنغام مُنظمة، هدفها استلهام العواطف وإيقاظها وفيها تسرح المشاعر بوساطة الأنغام. وما تصدره الأوتار يحرك الوجدان فقط. وهي لا تتجه إلى العقل، الذي يقوم فقط بتنظيمها وتوصيفها، إنما إلى الوجدان. وهي كما يجد فاغنر ـ أخيراً ـ النغم مفتاحاً للقلب والموسيقى هي لغة القلب الفنية.

كان الحديث عن علم جمال الموسيقى يوازي الحديث عن وصف المشاعر، وكان مضمون الموسيقى يُقدم على انه تصوير للأحاسيس. أما هانسليك فقد رأى الموسيقى، من جهته، لغة سمعية، يقع جوهرها ضمن اطر موسيقية بحتة وهي لا تتحدث حصراً من خلال الأنغام بل تتحدث بالأنغام فقط، وهي لا تحتاج بذلك إلى مفاهيم. لنأخذ الفرق بين الشعر والموسيقى: الشعر يخاطبنا أولاً بالمفاهيم ثم يمرّ بالأحاسيس ليصل في ذروته إلى العالم الحسي، والموسيقى تنطلق من المرور بالمشاعر لتصل إلى الفكر. طريقان متعاكسان: الأول هو ردّ المجرد إلى مفاتيحه الحسية، والثاني هو تجريد لما هو حسيّ. وفي الطبيعة يصبح من واجب « الجميل » الموسيقي أن يكون مسموعاً، كما يكون « الجميل » في الرسم شيئاً منظوراً وفي النحت شيئاً محسوساً.

هل تملك الموسيقى مضموناً؟

لا تعيد الموسيقى صياغة أشياء معروفة ومسماة، لذلك ليس لها مضمون يستطيع تفكيرنا المفاهيمي المركب تعريفه. ولأننا لا نستطيع الفصل بين شكل الموسيقى ومضمونها، لأن الفروق فيها ما بين المضمون والشكل تذوب وتتماهى، وإذا ما أحببنا أن نعرف مضمون أي مقطع لحني، فسنضطر إلى عزف شكله النغمي.

يوجد الجميل فقط في تركيبة الأنغام الفنية على نوع موسيقي بحت، تعبر فيه المادة الموسيقية عن أفكار موسيقية، هي هدف بذاته وليست وسيلة تصلح لتجسيد الأحاسيس والأفكار/المفاهيم. ويشبه هنا إعجابنا بالشيء في حد ذاته، إعجابنا باللوحة التزيينية، الأرابسك، التي اخترعها العرب، والتي نرى فيها خطوطاً ممشوقة هابطة مرة برقة وصاعدة مرة أخرى إلى أعلى، متلاقية ومتباعدة جامعة لتفاصيل صغيرة متناسقة تنتشر في مجمل اللوحة، هنا أيضا تجسد الموسيقى فعلاً لوحة من نوع خاص لا نستطيع شرح مضمونها بكلمات.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر