كل جمعة
الراعي والذئب
يعيش العربي، مثل نظامه وإعلامه، حالاً لا تسرّ من الإنكار، وتتوافر لديه دائماً الرغبة في نفي حقيقة ما يحدث، أو إحالته إلى حقيقة أخرى، كأن الاعتراف بطلوع الشمس من الشرق مُحرج أو مكلف إلى حد التشكيك في موقع الجهات على الأرض.
لم يعترف السياسي الرسمي بحجم الكارثة التي لحقت بالشعوب في العقود الماضية، وقد استبدت السلطة، وأنشأت مؤسسات الفساد، وقوانينها ونواميسها، لم يجد الأمر أكثر من مؤامرة خارجية، تلعب فيها الشعوب دور أحجار الشطرنج. لم يكن يعنيه أن الشعوب كانت مسلوبة الحرية والإرادة، وقد عاشت متوالية صعبة من التنازلات حتى بلغت جدار اليأس المطبق، فقررت هدمه، ذات غضب.
كل ما حدث ويحدث وسيحدث، إما تآمر، أو تطرف ديني، أو مذهبي، أو فتنة ما، والشعوب لا تفعل شيئاً سوى أنها تخرّب بيوتها بأيديها، ولذلك تستحق كل قمع ممكن، حتى وإن أدى الأمر إلى استخدام راجمات الصواريخ والطائرات، والدبابات.
حالٌ تامة من الإنكار، لا يُمكن مجادلتها على أي نحو، وبأي منطق. فالربيع العربي كان صادماً بحيث لا يمكن معه الإقرار بأن كل ما في الأمر تراكم طبيعي، وجَدَ لحظة تاريخية فارقة، فانفجر عندها تماماً، من دون تقديم أو تأخير، كأنما الأمور كانت تسير في خط مستقيم، وقد بلغ نهايته.
ثمة من شاهد النهاية بعيون مفتوحة تماماً، فقرر التعامل معها، مثل زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وثمة من يظن أن النهاية لم تحن بعد، وقبلها لابد من نهايات كثيرة، كما حدث في دول أخرى، وفي الطريق إلى ذلك انتشرت فزاعات كثيرة لا تخيف فأراً صغيراً، وأعمال درامية لا تقنع طفلاً في أول الحبو، وخرافات يحفها إعلام من العصر الطباشيري، وأوهام قليلة الحيلة.
لم تحدث الفوضى في تونس ومصر، كانت هناك اختلالات طبيعية على وقع صوت الارتطام لنظامين بوليسيين، فسقطت فزاعة: أنا أو الخراب، فسارعت الأنظمة التي تعصف بها خماسين الربيع إلى صنوف كثيرة من الفزاعات والكذب، تجربه مرّة تلو المرة، وتفشل فيه يوماً إثر آخر.
قال القذافي إن بنغازي تحولت إلى إمارة إسلامية، تتبع أسامة بن لادن الذي يُحرك قبائلها من مكان مجهول، فهذا أسهل من الاعتراف بفداحة جريمة دامت أكثر من أربعة عقود حُرم فيها الشعب الليبي من أبسط حقوقه البشرية. الغرب كله لم يقرأ الرسالة إلا معكوسة، وحين كان القذافي يهذي، كانت الاستخبارات الأميركية تبحث عن ابن لادن بين الكهوف والجبال حتى قتلته، وتركت القذافي غارقاً في « الكتاب الأخضر » والأكاذيب.
ثم شاهدنا جماعات سلفية على الشاشات الرسمية، استعجل المخرجون كثيراً في بثّ صورها، فلم تكن الأدوار على سوية حرفية معقولة، تجعل الناس تصدق الفزاعة: الممثلون لم يتلقوا تدريباً كافياً، و« أمير الجماعة التخريبية » لا يحفظ آية قرآنية واحدة، وليس لديه حتى سيناريو مترابط قليلاً.
استماتت السلطات في الدفاع عن وجودها، فلم تدع خرافة إلا وجربتها، ولم تدع إنكاراً إلا وتقمصته، ثم قالت إنها تريد الإصلاح وطي صفحة الماضي.. وكل ما هو مطلوب من الشعوب أن تصدقها، بكل حماسة، وتصدق معها قصة « الراعي والذئب ».
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .