أبواب

أيقونة العودة

علي العامري

منذ عتمة مستطيلة على امتداد 63 عاما، لايزال الحلم حلما، ولايزال الاحتلال دمويا، ولاتزال سجونه تتكاثر لكنها تزداد ضيقا، ولايزال الشعب الفلسطيني يحلم بوطن هو فلسطين، والوطن بالنسبة للفلسطيني ليس مخيما، وليس منفى، وليس مهجرا، وليس فردوسا أيضا، إنه وطن من بشر وطين ودموع وقصائد وأحلام وليل وصراخ وموسيقى وهدوء وعويل وصباحات ومقابر وأعراس وشجر. الوطن هو روح وماء ومعنى وإغفاءة في ظلال الزيتون، هو زهر اللوز ممزوجا بحناء عروس، وهو طفل يركض تحت المطر من دون مظلة أو قبعة. وطن الفلسطيني المرتجى أرض وسماء ومدارس ودفاتر رسم وأرق وصحون تتصادم في آخر الليل، وشجار عادي بين أشقاء وعناق بين جيران التقوا بعد هزائم وشهداء وانتفاضات وانقسام وجغرافيا، وطن هو الضوء والرماد والأنين الذي يتدفق من حجر، هو كتاب ومرايا ونبع وذكريات وأمهات موشومات بالصبر والحياة.

بعد ستة عقود من المرارة والشتات والدم واليأس والتراب، بعد كل هذا الاحتلال والاستيطان والمجازر والتهويد والتهجير وقلع أشجار البرتقال والزيتون، بعد كل هذا الغياب عن وطن هو المعنى، وعن صوت هو الندى، وعن صورة هي الارض، يبقى الفلسطيني يختبر القنوط بالحلم، ويختبر الحياة بالموت، ويختبر المقبرة بالمحبرة، ويختبر البحر بدمعة طفل يتيم.

ومن أرض وسماء ونشيد، إلى بلاد ولغات ومسافات وقبور جديدة على الكوكب الذي يدعى الأرض، ومنذ ذلك الزمن المعتم، لم يزل الفلسطيني يوقد روحه قنديلا يؤنس حلم العودة إلى وطن كامل بأقماره وأخطائه.

من بيسان وحيفا ويافا والناصرة وعكا والقدس ونابلس وتل الربيع وطولكرم وجنين وغزة ورام الله وبئر السبع، من الجليل إلى الخليل إلى النقب، من فلسطين إلى المخيم الذي لن «يتأبد»، وسيبقى مكانا مؤقتا، مكانا طارئا، مكانا معلقا، مكانا ناقصا، انتقل الفلسطيني ومعه حلمه بالعودة الى بيته الأول وشجرته الأولى ونبعه الأول وظله الأول وتعبه الأول وقصيدته الأولى، وبقي ينظر الى الجغرافيا بحذر، ويتعامل مع التاريخ بوصفه درسا، وإلى الخيمة بوصفها دمعة، وإلى الطريق بوصفه إشارة إلى فلسطين.

لكن الفلسطيني، ابن الحياة، لم يكبل يديه، ولم يهجع في العويل أو اللوم، فكان أينما وجد يبتكر شكلا جديدا للحياة، ويبدع معنى جديدا للحصى، يزرع ويتعلم ويكتب ويرسم ويتذكر ويحلم ويغفو ويمشي في الجغرافيا، وعينه على وطن اسمه فلسطين، وظلت مفاتيح البيت تدل على البيت الذي كان، كما تدل على باب مفقود، وحديقة منهوبة، وظلال محتلة، وشموس معتقلة.

بعد كل سنوات العتمة الجارحة، والشتات الفلسطيني، ظل المفتاح أيقونة لحلم العودة، وظل الحلم تميمة العودة.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر