كل جمعة

لماذا الدم؟

باسل رفايعة

لماذا الدم العربي هيّن إلى هذا الحد الذي يُهرق فيه بسرعة وسهولة؟ كأنه محض سائل رخيص، يُفضّلُ التخلص منه في أي مكان؛ في الشوارع والميادين، في أمكنة العبادة، في البيوت وأهلها نائمون، في عيادات الطوارئ بالمستشفيات، حيث لدى القاتل وجهة نظر اقتصادية، فيقرر قتل الجريح، توفيراً لكلفة الدواء والضمادات والقطن الأبيض.

يا لها من فظاعة، تُحيل الدماء إلى مجرد صورة سائلة، ولا عزاء للقتلى، سوى صفة لا يحسّ بها الموصوف، وقد أصبح شهيداً. هنا بيت الشهيد، هذه أم الشهيد، وتلك خالته وعمته، وهنا أبناؤه ينتظرون كاميرا تلفزيونية لن تأتي، لتروي دموعهم، وقد نجح القاتل في تنفيذ جريمة كاملة، مات فيها الشهيد، وماتت الصورة.. أيضاً.

لا مكان حتى للمراثي، فالقاتل لا يسمح للدموع، ولا يقبل بجنازة لائقة للضحية، أو قبر يشهد على أن إنساناً رفع صوته قليلاً لينادي على الحرية، فكان القناص أول من سمع النداء، فأجابه برصاصة متخصصة في قطع الوتر والصوت.

خالد سعيد من مواليد ،1982 وهو أيقونة مصرية لشباب «25 يناير» الذين أخلصوا لدمائه بعد أشهر من وفاته. لم يكن أكثر من شاب من الإسكندرية اعترض يوم مقتله على أسلوب تفتيش الأمن المصري لمقهى إنترنت كان فيه، فضربه المخبرون حتى الموت، ثم وضعوا كمية من المخدرات في فمه، ليقتلوا صورة الشهيد، ويرفعوا صورة المدمن، وقالوا لذويه ورفاقه بإصرار وثقة إنه مات بجرعة مخدرات زائدة.

تكرر خالد سعيد في أكثر من بلد عربي، خرج الشباب من الفقر والبطالة وانتهاك الكرامة إلى الشوارع ينشدون آمالاً ومستقبلاً جديداً، فسالت دماؤهم، من دون هوادة أو رأفة. تراجع عدد الفقراء والعاطلين عن العمل، هذا هو الحلّ الذي قرر الجلاّد اللجوء إليه لخفض نسبة الفقر والبطالة، بعدما أخفق عقوداً في مشروعات تنموية فاعلة تحتوي هذه الكوارث الاجتماعية، وبعدما أنتج أجيالاً من الجالسين على رصيف البطالة، إما لأنّ الأمر لا يعنيه، وإما لأن الوظائف حقّ مطلق للمستفيدين والعائلة والأقارب.

زجّ بلد عربي بعشرات الفتيان والأطفال في الزنازين لأنهم كتبوا كلمات وشعارات على الجدران، ذات ليلة، في ذات مدينة، لقد شاهدوا على التلفزيون أقرانهم في بلاد عربية يهتفون للمستقبل، فاستبدّت بهم الحماسة والمحاكاة فكتبوا بعض أحلام، ذهب آباؤهم إلى السجان يسألونه العطف والرحمة بمراهقين أخطأوا، وجد الجلاد طغياناً مناسباً أسعفه بالرد على الآباء، فطردهم، وذكّرهم وهم يخرجون من مكتبه بأن السجن سيكون جاهزاً لأمهات الفتيان والأطفال في المرة المقبلة.

في مصراته، في ليبيا العربية، مئات العائلات انتهت، أثقلها تعب الأيام والليالي المتكررات من دون خبز ودواء وأمن، فنامت، وقرر جلاد مهووس أن يرحمها بالقذائف أثناء النوم، فهو لا يعرف رحمة أشد من اختلاط دماء البشر بركام المنازل وترابها، ولا رحمة سوى بالموت السريع.

هذا هو المشهد العربي، يتحضّر للدماء في لحظات، ولا يكون بطيئاً أبداً في النزيف، يخرج الشباب من أجل السلام والإصلاح والحياة، فيرتبك الجلاد، ويخاف أول ما يخاف من المحاكاة، فيعاقب الأحياء بالموتى، والموتى بالأحياء، كأنما البلاد لا تتسع إلا لجلادٍ وجنازة.

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر