أبواب

أمراض العالم الثالث

زياد العناني

لم أر في حياتي مشهداً تجتمع فيه الشفقة مع التشفي مثل المشهد الذي ظهر فيه رئيس ساحل العاج السابق لوران باغبو، شبه عارٍ في أحد الفنادق، بعد اعتقاله على يد القوات الموالية للرئيس المنتخب والمعترف به دولياً الحسن وتارا.

وعلى الرغم من أن مشهد باغبو الإفريقي يعد درساً بليغاً يسقط نفسه بقوة على أكثر من مشهد عربي، وعلى أكثر من نظام، فإن عبرة المشهد لم تتمدد في الراهن كله، ولم تأخذ مكانها في رأس «باغبو العروبة»، سواء كان من المرضى بعلة العسكر، أو مجرد مصادفة ما فتئ يناوئ المصدر الأول للسلطات، وينشر ضغائنه، أو حتى شبه مرشح وحيد في ديمقراطية مكيفة تحبذ الوقوف في وجه الحرية، وتؤمن بالوفاة غير الطبيعية للشعوب، وتبدل الرخاء بفم الكارثة.

نعرف أن باغبو الإفريقي مجرد مرض من أمراض العالم الثالث، ونعرف أن أمثاله من منتحلي الشخصيات الوطنية المركّبة يتأرجحون في خصيصة سايكولوجية لا إرادية، تدفع بعرباتهم دائماً نحو الأسوأ، وتورطهم في لذة العيش على مغزى حشر الناس في خانة التبعية، على الرغم من أن التبعية، بحسب ميشيل فوكو، مجرد أنطولوجية تشمل الأقوياء، تماماً كما تشمل الضعفاء، ولكن الذي لا نعرفه حتماً هو كيف بإمكان الكل الجمعي أن يتبع التابع بلا ضوء ولا دليل؟ ولماذا يتحول هذا الكل الجمعي إلى سواد عميم من مطأطئي الرؤوس؟ وبأي منطق تصمت الكثرة على فرد يتميز عنوة، ويطبع رأسه فوق الصدر، ولا يستعمل يده إلا للقتل فقط؟

ربما بدأت محرقة الفزّاعات القديمة في الوطن العربي، وربما حان الوقت لتعرية من لا يريد أن يأكل من يد البلاد، ويفضل أكل البلاد كلها، وربما حان الوقت أيضاً لكبح جماح كل رغبوي محفوف بلعنة التشبث بالسلطة، ولكن الأهم من كل هذا يكمن في الذكاء الشعبي، وأهمية ألا يقبل مطلقاً بقائد جديد قبل أن يتأكد من كونه إنساناً وليس طلقة أو «بلطة» فوق الرأس، قد تتحرك بحجة أيديولوجية الممانعة أو بالخوف على الهوية والمعتقد، كما يتأكد من أنه أمام شخصية نزيهة ونظيفة، يمكن أن تستقيل من السلطة عند الإخفاق، ويمكن أن تعتذر عن المسؤولية إذا شعرت بأنها شخصية تأزيمية وغير مرغوبة، ويمكن أن تتمثل أيضاً روح وأخلاق الرئيس السوداني الأسبق سوار الذهب.

بإمكان أي نظام أن يتجنب المآل الذي ظهر فيه باغبو بلا «سكلجة» متماسكة، أو حتى «بولجة» قوية تميزه عن الناس الذين كان يقتلهم، وبلا تلك «المنشفة» البيضاء التي كان يجفف بها وجهه من الخجل، بعيداً عن الفرعنة والاستغراق الكاذب في الصفات المتألهة.

وبعد لم تعد هناك فرصة مفتوحة للزعيم لكي يتشدق بشرعيته، ولم يعد هناك جذر ديني ينتفع به، ولم تعد هناك دبابة تؤكد الوجود الثقيل فوق هرم السلطة، وليس أمام باغبو في نسختيه الإفريقية والعربية إلا أن يتنحى، أو يبدل قسوته بحكمته، وأن يلتجئ إلى تغليب ما يتصل بحقوق الإنسان، وعدم إضاءة أفعاله بالقوة وأشكال العقاب، التي رسمت نفسها بالدم، إذا أراد طبعاً أن يتجنب العزل أو المحاكمة أو السجن أو المنفى أو حتى الموت وممارسة حكمه الدموي تحت الأرض وليس فوقها..

zeyad_alanani@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر