يا جماعة الخير

قال هارون الرشيد

مصطفى عبدالعال

قالَ هارونُ الرشيدُ لِمُؤَدبِ ولدِهِ: «أَقْرِئْهُ القرآنَ وعرفْهُ الأخبارَ ورَوهِ الأشعارَ، وعلمْهُ السنَنَ وبَصرْهُ بِمَواقعِ الكلامِ وبَدْئِهِ، وامنَعْهُ مِنَ الضحكِ إلا فِي أوقاتِهِ، ولاَ تَمُرن بِكَ ساعةٌ إلا وأنتَ مُغتنِمٌ فائدةً تُفيدُهُ إياهَا».

هارون الرشيد.. ومن هو هارون الرشيد الذي تضرب به الأمثال في العز والمال والسلطان على مستوى الكرة الأرضية وعلى مدى تاريخ البشرية، فلو وجد لنقل العز والجاه والمال والسلطان إلى ولده ما هو أهم وأثمن من هذا لفعل ولو كلفه المليارات، وهي الحقيقة التي لا ينتبه إليها الكثيرون مما يسجله التاريخ على مر الزمن في تربية الأبناء عموما وتربية أبناء الملوك والسلاطين والحكام خصوصا، من حسنت تربيته على منهج الرشيد ساد البلاد وملك بالمحبة قلوب العباد، حاكما كان أو محكوما، اقتناعا لا خوفا ولا خضوعا، فماذا يريد المحكوم من الحاكم، أو المرؤوس من رئيسه، أو المكفول من كفيله، وقد وفر له أمنه وكرامته وفتح له أبواب رزقه؟ ولماذا فطر الله قلوب الأبناء على التعلق بالآباء؟ أليس لأنه مصدر عطائهم ومنعتهم وكيانهم، منذ فتحوا على الدنيا أعينهم، وساروا على الأرض بأقدامهم.

شيوخ وأمراء ما سادوا الدنيا إلا بمكارم الأخلاق، وإحقاق الحقوق، فما اهتز سلطانهم مهما ارتجت الأقطار.

وعلى العكس تماما، فكما تحفظ الشعوب لكرام الحكام مكارمهم وأفضالهم، فإنها أيضا تجتر للظالمين أفعالهم، ولا تنسى لهم أعمالهم، حتى إن عجزوا عن محاسبتهم في حياتهم، فإن التاريخ يتكفل بفضحهم، وجلب لعنات الأجيال عليهم وعلى أولادهم وأحفادهم وتتبع أذنابهم، فضلا عن ذوي القربى والمقربين، وإن واقع الساحة في أيامنا هذه خير شاهد ودليل على أولئك وهؤلاء.

فليت كل عاقل، مهما علت أو قلت رتبته وسلطانه، يؤمن بقضية التربية على مكارم الأخلاق، وأنها كل العز والنجاح ونيل الرتب والصدارة في شتى المجالات.

هارون الرشيد يوصي معلم فلذة كبده وقرة عينه، لما أراد له العزة بتعليمه القرآنَ وتعريفه التاريخ وصقل روحه ومشاعره بمجالس الأشعارَ، ثم يقول: «وبَصرْهُ بِمَواقعِ الكلامِ وبَدْئِهِ، وامنَعْهُ مِنَ الضحكِ إلا فِي أوقاتِهِ، ولاَ تَمُرن بِكَ ساعةٌ إلا وأنتَ مُغتنِمٌ فائدةً تُفيدُهُ إياهَا». ثم يقول الرشيد: «فإن رابك منه شيء فلا تقل ولد أمير المؤمنين!»، وسجل التاريخ شدة المعلم على ابن الرشيد، حتى اشتد عليه يوما، وغضب عليه وعنفه، ولم يجد الأمير لهذه القسوة سببا ولا مبررا، والرشيد يشهد ويفهم ويبتسم.. وتمر الأيام ويعتلي الأمير سدة الحكم وخلا بمعلمه يوما، فذكره يوم قسا عليه دون مبرر، وأنه لايزال في حيرة من السبب المجهول! فابتسم المعلم، وقال: «ظلمتك عامدا وأنت ابن الرشيد لتعلم يوم تكون أنت الرشيد كم هي تعاسة المظلوم فتتقي الله في رعيتك». التربية ومكارم الأخلاق خير ما يورث عاقل ولده، متابعته دون ملل ولا كلل في إقامة الصلاة، في احترام الأوقات، في تحري الحلال، واصطحابه في مجالس الكبار، وتدريبه عمليا على أفعال الرجال.. هذه هي التربية العملية، وليست النظريات والمقالات والمحاورات، فهل نتفرغ لأولادنا قليلا؟

المستشار التربوي لبرنامج « وطني»

mustafa@watani.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر