أبواب

براءة التحديقة الأولى

قيس الزبيدي

في عام 1983 كان ثيو انجيلوبولوس يقيم في روما في المبنى ذاته مع اندريه تاركوفسكي، الذي كان وقتئذ يصور فيلمه «نوستالجيا ـ حنين». وذات مرّة تجادلا طويلاً حول أصل كلمة «حنين»، واعتقد اندريه أن أصل الكلمة روسي، لكن ثيو شرح له أن الكلمة «nostos» أصلها يوناني، وتعني العودة إلى الوطن. واعتذر اندريه قائلاً «لم أكن أعرف أنها يونانية، بل ظننتها روسية، فـ«نوستالجيا» هي، على نحو عميق جداً، جزء من حالة النفس والروح الروسية، إلى حد أني أشعر بأن من اخترع الكلمة هم نحن.. الروس».

كانت السينما السياسية في الستينات تفرض حضورها وكان للتغريب البريشتي تأثيره الواسع: فقد أظهر بريشت الوسيلة، ليس فقط لتحقيق أفلام بيانات سياسية، لكن لتحقيقها سياسياً. وأصبح التأثير «البريشتي»، الذي كان جزءاً متمماً لرؤية انجيلوبولوس الشخصية منذ إقامته في باريس، واضحاً وصريحاً في أفلامه «كان عليّ أن أستخدم صيغ بريشت لتحقيق فيلم سياسي على الرغم من الرقابة المشددة. النتيجة كانت نوعاً مختلفاً من اللغة السينمائية، من المفهوم الجمالي، من الحديث بطريقة ملتوية غير مباشرة، التي قد تبدو، في البداية، مُلغزة لكنها مع ذلك لا تستعصي على الفهم».

وعبر المظهر السياسي الصريح ذاته، سعى انجيلوبولوس وتحت تأثير ماركس وفرويد أيضاً، إلى سبر الأوضاع الاجتماعية والسياسية عبر تناوله لتلك الفترات التاريخية المهمة التي مرّت بها بلاده اليونان.

في فيلم «الإسكندر الأعظم» وهو تأمل فلسفي ـ سياسي في مسألة السلطة ومعضلاتها «حاولت أن أصور مناضلاً من أجل الحرية ما ان يصل إلى السلطة حتى يتحول إلى طاغية مستبد. لم أكن أشير إلى مثال أو نموذج محدد، بل إلى خطر الفساد الذي يواجه كل شخص في السلطة».

أما بالنسبة إلى التأثير السينمائي وابتكار «ميزانسين» مكانه الخاص من لقطات كانت غالباً تستغرق 10 دقائق تقريبا، فيعترف ثيو بأنه مستنبط من أفلام أورسون ويلز، وبالتحديد من استخدامه اللقطة الطويلة وعمق المجال البؤري والمونتاج الداخلي، ومن توظيف تلك العلاقة المتزامنة بين الزمان والمكان،

وكما يقول الناقد وولفرام شوت كان: «وسط المخرج الشعري هو الزمن، الذي يتيح للمتفرج أن يخلق صوره الخاصة مما يعرض على الشاشة،أريد من أفلامي أن تعطي المتفرج الإحساس بكونه ذكياً ومتقد الذهن، أن تساعده على فهم وجوده الخاص، أن تمنحه الأمل بمستقبل أفضل، أن تعلّمه كيف يحلم ثانية».

ويبدو من الكتاب، الذي ترجمه بسلاسة الناقد البحريني المعروف أمين صالح وأعده بغنى لافت للنظر، ان المخرج اليوناني انشغل في اغلب أفلامه، كما فعل المخرج الروسي نفسه، بتناول موضوعات ذات الصلة بالبحث عن الوطن، وعالج فيها موضوعات فكرية وفلسفية عميقة تتصل بالحياة والموت، الذاكرة والندم، التاريخ والهوية، الفن والغربة. ولعل أفكاره العميقة وأساليبه الخاصة، جعلته ينتمي إلى كوكبة أولئك المخرجين«الصعبين»، ذوي الرؤى والأساليب التي لا تتوافق مع الذوق العام السائد. ويدعونا المخرج اليوناني الكبير أخيراً إلى ألا ننسى أن بعض الأفلام التي تكون ناجحة تجارياً بشكل ساحق، سرعان ما تتعرّض للنسيان، بينما تترك أفلام أخرى، لا يشاهدها إلا جمهور قليل، بصمتها على تاريخ السينما.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر