أبواب

مشكلات ثقافية

محمد المرزوقي

ممّا هو معلومٌ من تاريخ العرب الأوّلين بالضّرورة أنّهم كانوا يفرحون بنبوغ الشّعراء بينهم أيما فرح، ويحتفون بهم احتفاء الأب بقدوم مولودٍ جديد بعد طول يأسٍ من مجيئه. وكانت القبائل العربيّة ـ في الجاهليّة ـ تقيم الولائم، وتشعل النّار في مضاربها، و«تيبّب» نساءها لثلاثة أيامٍ.. إن بشّرت بشاعرٍ فيها!

لذلك كان لزامًا على أيّ مهتمٍ بدراسة أحوال العرب أن يدرس الشّعر العربي، فهو سجل حافل بالتّراث، ووثيقة «ويكيليكسيّة» يمكن من خلالها التعرف إلى طبيعة المجتمعات العربيّة، وتاريخها، وثقافتها. ويلخّص ذلك كلّه قول أبي فراس الحمداني (الشّعر ديوان العرب) أي ذاكرتهم الحافظة.

كان شعرهم باذخاً، حكيماً.. وكاذباً، فالشّعر فنٌ أدبي قائم على الكذب، ويعتمد بشكلٍ أساسيّ على المبالغات والخيال، وإذا افتقر إلى كلّ ذلك لم يعد شعراً. ولذلك قالت العرب «أعذب الشّعر أكذبه»! ولهذا السّبب كان يرى بعض الباحثين أنّ المستوى الفنّي لشعر الصّحابي حسّان بن ثابت قد تدنّى وضعف بعد إسلامه، وقد عبّر عن ذلك الأصمعي في قوله: «الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان وضعف، ألا ترى أن حسّان بن ثابت كان فحلاً من فحول الجاهلية فلمّا دخل في خير الإسلام لان وضعف؟!»، وذلك لأنّ الإسلام يمجّ الكذب ويحرّمه.

فالمعلقات السّبع مثلاً ليست سوى «بروتوكولات» لتعليم الكذب، ولذلك علّقها العرب على أستار الكعبة لتكون مرجعًا دائًما يعودون إليه كلما احتاجوا الكذب. لم يكن الكذب حكراً على أحد، كانوا جميعهم شركاء فيه كالماء، لذا شربه حتّى «الصعاليك» وشرقوا به.

ثمّ جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي، أحد عباقرة بني آدم، ووضع علماً مستقلاً للكذب سماه «العروض»، وهو ـ باختصار ـ علمٌ يُعنى بالكذب الموزون، واستمر الشّعراء يكذبون لأكثر من قرنٍ بعده بـ16 طريقة، إلى أن يئست نازك الملائكة من القيود التي تفرضها القافية والوزن على الشّعر، وتعرقل مهمّة الشّاعر في الكذب، فدعت إلىأ «تحرير» الكذب منهما. لم يقف الشّعراء المتأخّرون عند كذب الأوائل، بل طوّروا من أداوته وآلياته لتصبح ممارسته أكثر سهولة! ربّما كان الكذب مبرراً ومقبولاً في الجاهلية، فالمعروف عن الشّاعر في تلك الفترة أنّه كان لسان القبيلة الناطق، والمدافع عن أعراضها بشعره، تماماً كما يدافع الفارس عنها بسيفه، لكنّه تحوّل في العهد الأموي إلى «حشيش» يخدّر عقول النّاس، ويصرفهم عن فهم التّعاليم الثّورية الكبرى التي جاء بها الإسلام، بحسب الدّكتور علي الوردي.

أمّا في العهد العبّاسي فقد بلغ الشّعر أقصى درجةٍ له من الانحطاط، إذ تحوّل إلى وسيلةٍ للتسوّل والشحادة عند الأمراء والأثرياء، ولم يخطئ أفلاطون عندما ألّف كتابه «المدينة الفاضلة»، الذي قال فيه إنّه لن يمنح الشّعراء تأشيرة سياحة / إقامة لدخول مدينته الفاضلة، لأنّهم يروّجون الكذب بين النّاس وينهبون الولاة بألسنتهم! ولايزال كثيرٌ من شعراء اليوم يجرون على نمط أسلافهم في الكذب، ولكنّه كذب سياسيّ بشع، يستخدمه السّاسة ليتسلّطوا به على أرواح شعوبهم المقهورة!

على الشّعوب العربيّة أن تثورعلى أيّ شاعرٍ يكذب / يكتب قصيدة ليغزو بها تجمّعاتهم المحاطة بالصّدق والشّـفافية، كما ثار الدّكتور علي الوردي ـ رحمه الله ـ على الكذب الذي كرّسه الشّعراء في ثقافتنا العربيّة.

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر