أبواب

بيانات بصرية

قيس الزبيدي

كان الناقد عدنان مدانات أول من لفت الانتباه إلى المخرج والمنظّر دزيغا فيرتوف، في كتابه «بحثا عن السينما» في عام ،1974 وقام في عام 1978 بترجمة كتابه «الحقيقة السينمائية والعين السينمائية»، وها هو الآن يعود لإصدار هذا الكتاب في عمان (دار مجدلاوي)، بعد أن أخذ الفيلم التسجيلي يتبوأ مركزه الجديد في إنتاج الفضائيات العربية، وأصبح يُحتفى به في المهرجانات، وبدأت أنواع جنسه تدرس في ورش، هدفها التعريف بتاريخه ومناهجه وتسليط الضوء على تياراته الفنية.

من هو فيرتوف؟

بدأت السينما التسجيلية في العشرينات تظهر في روسيا الاشتراكية على يد فيرتوف، الذي ارتبط في البداية بجماعة جبهة الفن اليسارية وجماعاته الشكلانينية والمستقبلية، بينما كان يخرج الأفلام ويؤسس نظرية مبتكرة للفيلم التسجيلي، يسميها «العين السينمائية»، وبعدئذ سماها «الحقيقة السينمائية»، وحينما قام بنشر بيانه البصري في فيلم «الرجل ذو الكاميرا» جعل منه، ولايزال، العمل الطليعي النموذجي، الذي قدّم خلاصة وافية ونقية للإمكانات الخلاقة البصرية في التعبير السينمائي.

لماذا العين السينمائية؟ يسأل فيرتوف: هل يعطينا البصر صورة العالم؟ ويجيب: «نحن لا نستطيع أن نجعل عيوننا أفضل مما هي عليه، لكننا نستطيع تطوير الكاميرا السينمائية إلى ما لا نهاية»، ليمكننا استعمالها عيناً أكثر كمالاً من عيننا البشرية، ترى كل ظواهر فضائنا المرئية، لأنها عين تتمكن من جعل الشيء غير المرئي واضحاً، والمتخفي بارزاً، والمقنّع مرئياً، ونحن نسمي ذلك «العين السينمائية».

لقد اخترع الناس الميكروسكوب، بهدف رؤية ودراسة الظواهر غير المرئية، واخترعوا التلسكوب، بهدف رؤية الكواكب البعيدة المجهولة ودراستها، واخترعوا الكاميرا، بهدف التوغل بعمق أكثر في عالمنا المرئي، بهدف تسجيل ظواهر العالم المرئية وظواهر العالم غير المرئية وتفسيرها، لكي يتسنى لنا أن نفهم ما يحدث لنحسب حسابه في المستقبل.

لماذا الحقيقة السينمائية؟

انطلاقاً من اعتقاد فيرتوف بنقص إمكانية الرؤية البشرية، وجد في إمكانية رؤية الكاميرا أداةً لإدراك العالم، ووسيلة لتوجيه قدرة البصر عند المتفرج لرؤية كل الأشياء، وقام بتوظيف هذه الآلة سلاحاً فعالاً في البحث عن الحقيقة: «على الأفلام أن تقول الحقيقة حول عصرنا»، على هذا كانت الحقيقة أعلى سلطة لفنه، غير أن فيرتوف لم يكتف بتصوير أشياء الواقع بل تحليله، واستطاع بموهبته الكبيرة ووعيه الفكري أن يطوّر مواقفه الفيلمية والنظرية في مواجهة نظريات الفيلم الروائي، انطلاقاً من طبيعة العلاقة الوثيقة بين الفيلم والواقع، وكانت غايته الأساس تغليب الفيلم التسجيلي على الفيلم الروائي، ورفع مكانة إنتاجه وصنعه بموازاة انتشار إنتاج الفيلم الروائي وصنعه، واستطاع باستمرار تجاوز منهجية إعادة تسجيل العالم المرئي الخارجي، ليخلق صورة فلسفية للعالم، ويبتكر شاعريته. ومثلما عُد فلاهرتي الأب الروحي للفيلم التسجيلي ذي الرؤية الإنسانية في العالم، عُد فيرتوف المؤسس الحقيقي للسينما التحريضية الثورية في العالم، الذي لاتزال بياناته البصرية وإرثه السينمائي يجدان تأثيرهما في السينمائيين في العالم في كل أوقات الماضي والحاضر.

هناك من شبه أفلام بودوفكين بالأغنية، وأفلام إيزنشتين بالصرخة، يبقى أن نقول إن أفلام فيرتوف هي صرخة مُغنّاة.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر