أبواب

سير أعلام الخطباء

محمد المرزوقي

أن تدخل الثّورة إلى بلدٍ مثل ليبيا، فإنّ ذلك أمرٌ سهل ومتوقّع، وأكثر من سبب يدفعها إلى ذلك، أمّا أن تخرج منه، فيشبه ذلك خروج إسرائيل من الأراضي الفلسطينيّة، يحتاج إلى عصا سيدنا موسى السّحريّة أو «تكتك» الرّئيس معمّر القذافي.

كانت أخبار الثورة الليبيّة ورائحتها الزكيّة تنتشر في كلّ مكان، لدرجة أنّني بدأت أرى وجه القذافي في كلّ شيءٍ حولي: في انعكاسات المرايا، وجوه المارّة، الإشارات الضّوئيّة «الخضراء»، وحبوب الهلوسة! كنت أخشى حتّى الذهاب للنّوم، فقد أضع رأسي على وسادتي ليخرج لي أحدهم من تحتها ويصرخ «زنقة زنقة»!

كثيرةٌ هي خطابات الزّعماء وكلماتهم التي أصبحت - بحكم بلاغتها أو طرافتها - ملازمةً لقائليها تاريخياً، حتّى بعد رحيلهم، فمثلاً الرّئيس الفلسطيني ياسر عرفات دائما ما نتذكّر معه عبارته الشّهيرة «يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً، وأنا أقول شهيداً شهيداً شهيداً»، والرّئيس الأميركي السّابق جورج بوش نتذكر معه مئات العبارات المضحكة، إحداها «حينما كنت صغيراً وغير مسؤول، كنت صغـيراً وغير مسؤول»، ويبدو أنّنا سنتذكر مع الرّئيس الليبي معمّر القذافي العبارة الشّهيرة «زنقة زنقة».

للمرة الأولى يجد القذافي نفسه عاجزاً عن الكلام لأكثر من 10 ثوانٍ، مع أنّه في مناسبات / خطابات سابقة كان يتحدث لساعاتٍ دون توقّف، هذه المرّة لم يقل سوى «أنا هنا ولست في فنزويلا، لا تصدقوا الكلاب الضالة»، ومضى!

وإذا أخذنا هذا الخطاب على ظاهره فقد لا يعني شيئاً مهماً، لأنه لا يعدو أن يكون كلاماً صادراً عن زعيم ارتبك فجأة، فأفلت من قبضته زمام لسانه، وعبّر عن غضبه بألفاظ خارجة ولا مبرّر لها. أما إذا أردنا البحث عن مدلولات هذا الخطاب والمعنى المستتر بين ألفاظه، فإنّ ذلك يتطلّب النّظر في المستوى الكامن خلف كواليس السياق.

يقول ليون تروتسكي في كتابه «مشكلات الحياة اليومية» في معرض انتقاده لبذاءة اللغة الروسية وفظاظة المتحدّثين بها إن «بذاءة اللغة إرث من العبودية والإذلال واحتقار كرامة الإنسان». كان الكلام البذيء لدى الطبقات الروسية الدّنيا - بحسب تروتسكي - ناجماً عن اليأس والعبودية التي لا أمل فيها، ولا علاج منها. وأمّا الكلام القذر لدى الطّبقات العليا، فكان نتيجة تفشّي الطّبقيّة، وكبرياء مالكي العبيد، وسلطة مطلقة لا تتزعزع!

نوعان من البذاءة هما إذاً: بذاءة القصور والبذخ لدى المتحكّمين، وبذاءة الشّوارع والبؤس لدى المحكومين، لونّا كلّ الحياة الروسيّة آنذاك بصورة مثيرة للاحتقار، ويلوّنان الآن حياة كثيرٍ من دول المنطقة العربيّة بما فيها ليبيا.

ربّما لم تكن جميع خطابات القذافي دليلاً كافياً - بالنّسبة إليه - على فقدانه السّيطرة على ليبيا، وعلى الشّعب، وعلى نفسه؛ فأراد أن يزيدها دليلاً / خطاباً واحداً. فهو «ليس مسلسلاً مصرياً من 30 حلقة، بل مسلسل مكسيكي لا نهاية له»، وهو «ليس رئيساً ليستقيل.. هو قائد ثورة للأبد»، ونسي أنّ الأشياء السّيئة تدوم طويلاً في الغالب، وأنّ إبليس هو وحده من يعيش إلى الأبد في هذه الحياة!

ليس المقصود - بالطّبع - أن خطابات القذافي السّابقة كانت ذات معنى، لكنّنا نتحدّث عن نقطة تحوّل حرجة تمرّ فيها ليبيا - والمنطقة العربيّة - بلحظات فاصلة لا تحتمل التّهريج والكوميديا. ولا شك في أنّ خطابات القذافي الأخيرة -وما تبعها من جرائم - أوضحت صورته. وهذا لا يعني أبداً أنّ الصّورة كانت قبل ذلك عديمة الوضوح، فقط كانت بحاجة إلى تأمّلٍ أكثر.

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر