كل جمعة

مصريون جداً

باسل رفايعة

لم يقطعوا غصناً من شجرة، لم يُحرّكوا حجراً من رصيف شارع، لم يكسروا زجاج متجر أو سيارة، لم يُحوّلوا ميدان التحرير مكباً للنفايات، بل مكاناً إنسانياً مسالماً، يكتظ بالأناشيد والهتافات التي تستحثّ الشمس والحرية، وتقرع الأجراس نحو مستقبل مختلف، يطلع من الحناجر منذ الخامس والعشرين من يناير، حين قرر المصريون أن يعودوا إلى الإلهام والتأثير، بعد تراجع دام عقوداً في الصمت واليأس.. وكرة القدم.

الشباب المصري، بروحه المتحضرة، وسلوكه الإنساني والسياسي المتمدن في ميدان التحرير، نجح في الأيام الماضية في إعادة مصر إلى المقدمة والقيادة والريادة، فليست الأمور بخواتيمها دائماً، والحشد المليوني حقق التغيير فعلاً، مهما حدث ويحدث. التغيير الثقافي، والسياسي، والحضاري بأبعاده ومكاسبه، ذلك التغيير الذي يصنع الفرق، ويكسر الجمود، ويطرح دائماً صيغاً حيوية للحوار والفهم، دون تطرف وعصبيات.

في أيام قليلة، أسقط الشباب المصري كثيراً من الخرافات والأكاذيب، وحرسوا بلادهم من الانجرار إلى الفوضى والعدمية. سيتذكر العرب والعالم أن شباباً مصريين حموا بلادهم من العتمة، وسطعوا في شوارعها وحواريْها ضوءاً عميماً، عندما وقفوا ضد عابثين بأمنها وسلامها، واحتشدوا في الشوارع، لئلا يسرق اللصوص حديقة أو منزلاً، أو متحفاً يرقد فيه تاريخ مصر، ولئلا يسرقوا أحلاماً توشك على التبرعم، مثل أزهار على ضفاف النيل.

أسقط شباب مصر من ميدان التحرير خرافة «الغوغاء» التي راجت وشاعت صورةً نمطيةً عن حركات الاحتجاج في الشارع العربي، لتبرير قمعه ومنعه، فلم يهتفوا بطائفية أو عنصرية أو جهالات، ولم تمتدّ أيديهم إلا لتلوح في الفضاء طلباً للحقوق والأمل، أسقطوا هذه الخرافة بكل قوة ووضوح، ووجهوا رسالة إلى أمة العرب في التنظيم الرفيع، والانضباط المسؤول، والحسّ الوطني الراقي بأهمية صناعة اللحظة التاريخية، من دون تشويش أو أخطاء.

أسقط شباب مصر الأكاذيب الراسخة عن سهولة انقسام الشارع العربي في المفاصل والأحداث الكبرى، وتمكنوا من حشد نحو ثمانية ملايين في أنحاء مصر يوم الثلاثاء الماضي، وكان كل واحد منهم قادراً على أن يكون قائداً في مكانه، وناطقاً رسمياً باسم الملايين، في خطاب متزن ومتماسك، يجب أن يتعلم منه المسؤولون العرب الاعتدال والثقة والاحتراف في تقدير الموقف، والتعبير عنه بذكاء وبساطة.

أسقط شباب مصر الوصاية على التعبير الجديد، والروح الجديدة في الشارع العربي. لم يجرؤ حزب أو تنظيم أو جهة على الادعاء بأنه يقودهم، فقد أثبتوا أنهم وحدهم الجديرون بقيادة أنفسهم، وقيادة آبائهم إلى حيث يجب أن تتغير المفاهيم والأفكار.

أولئك الشباب، المصريون جداً، والأحرار جداً، علمونا أن ثقافة التعبير في الشارع العربي لابدّ أن تكون أكثر عقلانية من الجنون الذي يحيط بنا، وعلمونا أن الطريق إلى الوطن شاقة وطويلة، ولكن لابدّ من مشاة يمسحون العَرَق والحزن والدموع ليكملوا الطريق إلى آخرها، بعزيمة لا يبددها الظلام، ولا أشباح الطريق.

مصريون جداً يسرعون الى مستقبلهم، غير خائفين أو مترددين، وفي كل يد قمحٌ وجرحٌ، ومن كل حنجرة يصعد ذلك النشيد: «بلادي.. بلادي».

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر